ثقافة المقاطعة
أحمد يحيى الديلمي
بالأمس القريب كنت في إحدى البقالات الكبيرة في العاصمة صنعاء، لفتت انتباهي إحدى الأمهات وهي تُقلب إحدى الماركات المعروضة داخل البقالة، وإذا بابنتها الصغيرة التي لم يتجاوز عمرها 6سنوات تنهرها وتقول “لا يا أمي هذه مقاطعة”، موقف عظيم له دلالاته الواضحة على مدى تجذر ثقافة المقاطعة الفاعلة حتى في أعماق الأطفال نتيجة اتساع الوعي بالأضرار التي يتكبدها الشعب الفلسطيني وكل العرب والمسلمين نتيجة الهجمة الإمبريالية الشرسة التي تتزعمها أمريكا، والتي لم تكن كارثة غزة إلا صورة مصغرة من صور الاستهداف المباشر للعرب والمسلمين.
كلام الطفلة جعلني أفكر في تلك الدول التي تدعي أنها عربية وأمرت بمنع دخول المنتجات الفلسطينية إلى أراضيها إلا إذا كانت ممهورة بختم بلد المنشأ، وبلد المنشأ طبعاً دولة الكيان الصهيوني الغاصب، بينما كُنا قبل سنوات نعهد أن منتجات البرتقال وزيت الزيتون والفراولة وغيرها من المنتجات التي تزخر بها الأراضي الفلسطينية تصلنا تحت يافطة دولة فلسطين، إلا أن من بدأو يتصهينون لم يرق لهم هذا الاسم ولم يجدوا رغبة في التعاطي معه نتيجة التوجسات المسبقة، أما من حماس أو الجهاد وفي فترة من الفترات حتى فتح كانت مرفوضة في عدد من الدول العربية رغم أنها تواجه أشرس عدو في مدن وقرى لبنان، لكن دخول السعودية كطرف في القضية اللبنانية اختزل ذلك العداء الدفين في حزب الله والمقاومة الإسلامية، ما أثار إعجابي جداً من كلام الطفلة أن ثقافة المقاطعة لكل ما هو أمريكي وصهيوني بدأت تتجذر بشكل أساسي وبدأ الجميع يُدرك أهمية الحرب الاقتصادية ودورها في إخضاع دول الهيمنة الغربية وكسر هاماتها وحَملها تسلم بحقوق العرب والمسلمين وفي المقدمة حق الشعب العربي الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة على جميع الأراضي التي استولت عليها دولة الكيان الصهيوني بمساعدة بريطانيا ثم أمريكا وبعد ذلك كل دول أوروبا، إذا فالمقاطعة الاقتصادية لا تقل شأناً عن صولة المدافع والدبابات ولها دورها الكبير في دفع دولة العدو الصهيوني إلى التسليم ومغادرة الأراضي المحتلة إلى غير رجعة، وإذا ما تجذرت هذه الفكرة في النفوس وأصبحت المقاطعة بدوافع ذاتية من كل عربي ومسلم فإنها ستؤثر كلياً على القضية ومساراتها المختلفة وتضع لها ألف حساب قبل أن تفكر أمريكا أو غيرها في اتخاذ خطوات جديدة لقهر إرادة الأمة العربية والإسلامية، والتي يعتقد أنها مُعدة سلفاً ويتم اللجوء إليها عند الحاجة فقط، أما فكرة الهيمنة والسيطرة على كل ما هو عربي ومسلم فإنها موجودة مُنذ سنوات ولا تحتاج أمريكا إلا للعودة إلى الأرشيف الخاص بحلقات التآمر لكي تنفذ كل خطوة في موعدها وأوانها وهذا ما حدث بالنسبة لطوفان الأقصى.
ومن الغريب جداً أن تلك المشاهد الغاية في البشاعة والإجرام لأشلاء الأطفال لم تهز ضمائر بعض القادة وحتى المواطنين في بعض الدول العربية ولا زالوا يصرون على التعاطي مع منتجات أمريكا وأوروبا والكيان الصهيوني ويتقبلونها بصدور رحبة غير مُدركين أنهم بذلك يقدمون دعماً مباشراً لدولة الكيان الصهيوني تمكنها من السيطرة والاستحكام في مسار القضية الفلسطينية، إلا أننا نستبشر خيراً في بلادنا اليمن أن الجهات المعنية بدأت توزع منشورات خاصة تُحدد فيها نوع البضاعة المطلوب مقاطعتها، حتى وصل الأمر إلى إتقان الأطفال لمفهوم المقاطعة وهي المقدمة الحقيقية للانتصار الكبير على هذه المؤامرة الحقيرة استناداً إلى مشهد لمسته بنفسي عام 2001م عندما كُنا في بيروت مجموعة من الصحفيين وكنا في زيارة لبوابة فاطمة التي تفصل لبنان عن الأراضي المحتلة فقد طلب أحد الزملاء من صاحب الدكان قارورة كاكولا وإذا بالطفلة ابنة صاحب الدكان تقول “أنت تتسلى بهذا المشروب ولا تُدرك أنك إنما تُسهم في توفير مادة لقتل فلسطيني رجل أو طفل أو امرأة”، كُلنا استغربنا لكلام الطفلة لكننا لم نأخذه على محمل الجد كما هو حالنا اليوم ونحن نشاهد في بلادنا بالذات اليمن صرخات المطالبة تتعالى وتدعو إلى مقاطعة المنتجات الصهيونية والأمريكية والأوروبية بعد أن اتسع نطاق التوعية ووصل إلى كل بيت عبر الإذاعات والتلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي، هذا يعني أن هذه هي البداية الصحيحة لاستكمال مقومات النصر ودخول المعركة ببسالة وإن شاء الله هذه الطفلة التي سمعتها تتحدث عن مقاطعة البضائع الغربية المنتجة في الدول التي تساعد دولة الكيان الصهيوني ستصل حتى إلى مناهج الدراسة وتصبح قاعدة يلتزم بها الجميع، وهذه هي البوابة الأولى للفوز وتحقيق النصر إن شاء الله، والله من وراء القصد ..