نص المحاضرة الرمضانية العشرون للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1443 هـ
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.
كان من أبرز الأحداث وأكبر المآسي في تاريخ الأمة، التي وقعت في شهر رمضان، وكانت في شهر رمضان لسنة أربعين من الهجرة النبوية، في ليلة التاسع عشر من شهر رمضان آنذاك، أن استهدف أمير المؤمنين، وإمام المتقين، وسيِّد الوصيين علي بن أبي طالبٍ “عليه السلام”، وهو خارجٌ في مسجده لأداء صلاة الفجر في جامع الكوفة، وهو يتقدَّم لصلاة الفجر، فأصيب في عمليةٍ استهدافيةٍ غادرة، استهدفه فيها أشقى الأشقياء: ابن ملجم لعنه الله.
وفي الليلة الثالثة للضربة تلك، ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان آنذاك، التحق أمير المؤمنين “عليه السلام” بالرفيق الأعلى شهيداً فائزاً سعيداً، في اللحظة التي أصيب فيها بالسيف على رأسه الشريف، قال كلمته الشهيرة التي سجلها التاريخ: ((فزت وربِّ الكعبة)).
ذلك الاستهداف كان من أكبر المآسي في تاريخ الأمة، التي امتدت تأثيراتها السيئة على الأمة جيلاً بعد جيل، وما حدث لم يكن مجرد واقعةٍ عاديةٍ، استهدفت شخصاً يحكم الدولة الإسلامية، فأتى بديلاً عنه شخصٌ آخر، الأمر يختلف كلياً، الذي استهدف بتلك الضربة الغادرة هو: أمير المؤمنين، سيِّد الوصيين، إمام المتقين، هو من قال عنه رسول الله “صلى الله عليه وعلى آله وسلم” مبيِّناً منزلته، مقامه العظيم عند الله، دوره في الإسلام وحركة الإسلام، علاقته بالأمة: ((أنت منِّي بمنزلة هارون من موسى، إلَّا أنه لا نبي بعدي)).
فالذي أصيب في ذلك الاستهداف الغادر، هو من له هذه المنزلة، من له هذه المرتبة، التي هي المرتبة الثانية بعد رسول الله “صلى الله عليه وعلى آله وسلم”، في مقامه الإيماني العظيم، وكماله الإيماني العظيم، في منزلته عند الله “سبحانه وتعالى”، في دوره العظيم في نصرة رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، ومؤازرته، وفي العمل على إقامة الإسلام، وفي الجهاد في سبيل الله، وفي التصدي لكل أعداء الإسلام الذين حاربوه في عصر الرسالة الأول، في كل ما يتعلق بمسيرة الإسلام، وأيضاً في طبيعة دوره في الأمة، فيما بعد وفاة رسول “صلى الله عليه وعلى آله”، وامتداد المسيرة الإسلامية وفق أصالتها.
فها هو أمير المؤمنين “عليه السلام” في ذلك المقام العظيم، والمنزلة العالية، يُستَهدف بسيفٍ محسوبٍ على أنه من الأمة، منتسبٌ إلى الأمة، وإن لم يكن في واقع الحال يمكن أن يكون منها من يرتكب جرماً فظيعاً عظيماً مهولاً بذلك المستوى، ولكن كان هناك أيضاً تخطيطٌ لهذه العملية، ولم تكن مجرد تصرفٍ شخصيٍ، نابعٍ من قرارٍ شخصي، كان وراء ذلك تدبيرٌ وسعيٌ من حركة النفاق في هذه الأمة، التي تزعَّمها وحمل لواءها الطغيان الأموي في تلك المرحلة.
أمير المؤمنين “عليه السلام” بمقامه العظيم عند الله، ومنزلته العالية عند الله “سبحانه وتعالى”، يتبين لنا من خلال هذا الاعتبار أن ننظر إلى فظاعة ما حدث، إلى هول الجريمة، إلى شناعة تلك الجريمة، وهي تطال ولياً من أولياء الله، من صفوة أولياء الله “سبحانه وتعالى”.
في القرآن الكريم يخبرنا الله “سبحانه وتعالى” عن فظاعة جريمة استهداف أي إنسانٍ مؤمن، في قوله “سبحانه وتعالى”: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}[النساء: الآية93]، على مستوى مؤمنٍ واحدٍ، من أي المؤمنين، من سائر المؤمنين، لا يُشترط أن يكون قد بلغ أعلى مراتب الإيمان، هذا الغضب من الله “سبحانه وتعالى” إلى هذه الدرجة: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}، من أكبر الوعيد الذي أتى في القرآن الكريم، وهو وعيدٌ على جريمةٍ محددة، هناك في القرآن الكريم يتكرر الوعيد على جرائم محددة، ولكن يبرز هذا الوعيد الشديد، الذي يبين غضب الله الشديد، والعذاب العظيم؛ وبالتالي يبين شناعة تلك الجريمة، فما بالك عندما يكون المستهدف هو مولى المؤمنين، هو أكمل المؤمنين إيماناً، هو أعلاهم مرتبةً في إيمانه، وأسبق الأمة في إيمانها برسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، وعلى مستوى عظيم، إيمانٌ متميزٌ بالكمال والسبق بما لا مثيل له في هذه الأمة.
الله “سبحانه وتعالى” قال أيضاً في حديثٍ قدسيٍ مرويٍ: ((من عادى لي ولياً، فقد بارزني بالمحاربة))، من يعادي ولياً من أولياء الله، فعلى ماذا يعاديه؟ إلَّا على ما يحمله من الإيمان، ما يتحرك به في إطار الحق، يعاديه من أجل موقفه الحق، من أجل ما يقوم به ويتحرك به مما يجسِّد إيمانه بالله “سبحانه وتعالى”، وامتثاله لأمر الله “جلَّ شأنه.
فالعداء مثلاً لأمير المؤمنين “عليه السلام” لم يكن مجرد عداءٍ لشخصه، أو لاسمه؛ إنما لما كان يحمله علي، لما كان يمثله علي، لدور عليٍّ “عليه السلام” في هذه الأمة، ودوره كله مرتبطٌ بحركة الرسالة الإلهية، يجاهد من أجل إقامتها، من أجل الدفاع عنها، من أجل إرساء دعائمها في أوساط الأمة، فهو الذي كان دائماً في واقعه، فيما يحمله، في ثقافته، في وعيه، في علمه، فيما يقدِّمه، فيما يعمله، في مواقفه، مقترناً بالقرآن الكريم، لا ينفك عنه، هو الذي قال عنه رسول الله “صلى الله عليه وعلى آله وسلم”: ((عليٌّ مع القرآن، والقرآن مع علي))، هذا التلازم الذي لم يفارق عليًّا “عليه السلام” للحظةٍ واحدة، هذا التلازم الذي كان حاضراً في كل حياة عليٍّ “عليه السلام”، في كل مواقف عليٍّ “عليه السلام”، في كل حركة عليٍّ “عليه السلام”، فكان قرآناً ناطقاً، جسَّد تعاليم القرآن، وقف مواقف القرآن، ما يقدمه للأمة يقدمه من نور القرآن، تلازمٌ مستمرٌ منذ يومه الأول في الإسلام، وإلى أن التحق بالرفيق الأعلى شهيداً سعيداً فائزاً، بعد أن قال كلمته الشهيرة: ((فُزتُ وَربِّ الكعبة)).
عليٌّ “عليه السلام” الذي كان يُجَسِّدُ الحق في كل تعاليمه، في كل مواقفه، في كل حكمه، في كل حركته، وكان هذا التلازم أيضاً لا ينفك عنه للحظةٍ واحدة، كان كما قال عنه رسول الله “صلى الله عليه وعلى آله وسلم”: ((عليٌّ مع الحق، والحق مع علي))، فكان دائماً يقف موقف الحق، وكان دائماً يتحرك بالحق، يُقدِّم الحق، يربط الأمة بالحق، الحق هو العنوان الرئيسي لكل حركته، لكل مواقفه، لكل أعماله.
في مقامه العظيم عند الله، وهو الذي يقول الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” في حديث الغدير بشأنه: ((اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه))، فمن يعاديه، فهو عدوٌ لله، عدوٌ للإسلام، عدوٌ للرسول “صلى الله عليه وعلى آله وسلم”؛ وبالتالي نعرف ما هو مصيره من هو كذلك.
الإمام عليٌّ “عليه السلام” بتلك المنزلة العظيمة عند الله، وفيما يعنيه لنا كمسلمين، من توجهت إلينا كلمات الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله”، وهو يعرِّفنا عن مقام علي، عن دور علي، عمَّا يعنيه لنا علي، أنَّ حبه إيمان، فإذا كنا مؤمنين، ومن يريد أن يكون مؤمناً لابدَّ له أن يكون محباً لعليٍّ “عليه السلام”، وأنَّ بغضه نفاق، فمن يبغض عليًّا، ويكره عليًّا، وينزعج من علي، ويستاء من عليٍّ “عليه السلام”؛ فهو منافق، ولم يدفعه إلى ذلك إلَّا نفاقه، لم يجعله على ذلك المستوى من البغض للحق، والإيمان في صورته الناصعة، والكمال الإنساني في أرقى صوره وأشكاله، إلَّا تلك الحالة غير السوية، التي هي حالة نفاق.
لا يتعب الإنسان حتى يكون محباً لعلي، لا يحتاج ذلك إلى عناء، بمجرد أن تتعرف عليه، فترى كماله الإنساني الذي عبَّرت عنه سورة الإنسان، وترى كماله الإيماني، وهو أرقى نموذجٍ في الأمة، من أتباع رسول الله، من المؤمنين برسول الله، الذي تجسَّدت فيه كل المواصفات الإيمانية على أرقى مستوى، كما وردت في القرآن الكريم، بكل جمالها، وجلالها، وروعتها، وجاذبيتها.
على مستوى الفطرة، الإنسان ينشد إلى أصحاب الكمال الإنساني، أصحاب الكمال الأخلاقي، أصحاب الكمال الإيماني، يحبهم، هي الفطرة البشرية، فإذا كان الإنسان على حالةٍ مغايرة، فهو شاذٌ عن الفطرة، وهي حالة النفاق التي تجعل الإنسان يشذ عن فطرته، فلا يبقى إنساناً سوياً حتى في مشاعره.
عليٌّ “عليه السلام” في دوره الكبير فيما يتعلق بالرسالة الإلهية، وهو: وزير رسول الله، ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى))، هو المؤازر، ((إلَّا أنه لا نبي بعدي))، ليس بنبي، هو وصي، وصي رسول الله، هو إمام المتقين، وسيد الوصيين، وأمير المؤمنين، هو ولي المؤمنين: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[المائدة: من الآية55]، في هذا الدور المهم الذي يمثل امتداد الرسالة الإلهية بكل أصالتها، ونقائها، وصفائها، ومن دون الشوائب، التي سعت حركة النفاق إلى أن تلوثها بها؛ حتى تشوّه الإسلام، وتحرِّف معالمه، ندرك من خلال ذلك كله فظاعة ما حدث، شناعة ذلك الاستهداف، آثاره السيئة، وما يمثله من جريمةٍ كبيرةٍ جدًّا.
هو في واقع الحال عندما حصل من ساحة الأمة، من الداخل، كان شاهداً واضحاً على طبيعة الانحراف، وعلى حقيقة المشكلة التي وقعت في تاريخ الأمة، وطبيعة الدور الذي كان يقوم به أمير المؤمنين عليٌّ “عليه السلام” في تصديه لتلك المشاكل.
أمير المؤمنين “عليه السلام” بمثل ما كان له الدور العظيم في حركة الإسلام، منذ بداية حركة الإسلام، وهو أول المسلمين إسلاماً، وأعظمهم إيماناً، وأعظمهم إسهاماً في نصرة الإسلام، في مؤازرة النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، في العمل على إحقاق الحق، في التصدي للأعداء، والتصدي لكل الأخطار التي كانت تحيط بالمسلمين وبالإسلام، في كل المرحلة التي يمكن أن نسميها بمرحلة التنزيل، مرحلة نزول القرآن الكريم، وحركة النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” بالرسالة في تبليغها؛ لإخراج الأمة من حالة الشرك والكفر، إلى نور الإسلام.
في تلك المرحلة كان دور عليٍّ “عليه السلام” دوراً متميزاً وبارزاً، فكان هو الرجل الاستثنائي، في كل المحطات الاستثنائية، وفي كل المراحل والتحديات الاستثنائية والخطيرة:
كان هو في معركة بدر وغزوة بدرٍ الكبرى الأعظم إسهاماً، والأكبر أثراً في عطائه، في تضحيته، في استبساله، في تفانيه، فيما حققه الله على يديه من ضرباتٍ منكِّلةٍ بالأعداء، وبرز في غزوة بدرٍ دوره الكبير والمتميز، وإسهامه العظيم في المعركة، بما هيَّأه الله على يديه.
وفي أحد كان له الدور المحوري والمتميز جدًّا، وبالذات مع الانتكاسة التي حصلت للمسلمين، وما كان إثرها من تهديد لحياة النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، فثبت أمير المؤمنين “عليه السلام” مع القلة القليلة ممن ثبتوا، وكان في تفانيه، واستبساله، وأدائه العظيم، وما حظي فيه من معونة الله، وتوفيقه، وتأييده، ونصره، إلى الدرجة التي أثارت إعجاب جبرائيل “عليه السلام”، وهو حاضرٌ عند رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، فقال كلمته التي نقلها المحدِّثون والمؤرِّخون: ((إنَّ هذه لهي المواساة))، قال عن ذلك المستوى من التفاني، من الاستبسال، من التضحية، من الأداء العظيم الذي ينطلق من منطلقٍ إيمانيٍ عظيم، قال عنه: ((إنَّ هذه لهي المواساة))، فقال النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”: ((إنه منِّي، وأنا منه))، فقال جبرائيل “عليه السلام”: ((وأنا منكما))، فيما يعبِّر عنه من علو المنزلة، وعظيم المقام الإيماني، وعند الله “سبحانه وتعالى”.
في مقام الخندق، في تلك المرحلة الحرجة جدًّا، كان موقف عليٍّ “عليه السلام” هو الموقف الاستثنائي والعظيم، والذي عبَّر عنه رسول الله “صلى الله عليه وعلى آله وسلم” بتلك العبارة الشهيرة العظيمة، التي لها مدلولها الكبير جدًّا: ((برز الإيمان كله، إلى الشرك كله))، فكان عليٌّ “عليه السلام” في ذلك الموقف يجسِّد الإيمان، يعبِّر عن الإيمان، وكانت واقعةً حسَّاسةً جدًّا، لها تأثيراتها الممكنة في هذا الاتجاه، أو في ذلك الاتجاه، فانتصر الإيمان بانتصار عليٍّ “عليه السلام”.
في كذلك وقعة خيبر وغزوة خيبر، كان هو فاتح خيبر، بعد أن قال رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” كلمته العظيمة: ((لأعطين الراية غداً رجلاً يحبُّ الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كراراً غير فرار، يفتح الله على يديه))، وهو يتحدث لنا عن مشاعر عليٍّ الإيمانية، عن أعظم ما يحمله الإنسان المؤمن، وهو: محبته لله، ومحبته لرسوله “صلوات الله عليه وعلى آله”، وفي نفس الوقت يذكر مقام عليٍّ عند الله، وعند رسوله، ((ويحبه الله ورسوله))، ليبين لنا كيف هي المنطلقات التي ميَّزت عليًّا في استبساله وتفانيه في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، أنها كانت قبل أن تكون فطريةً، هي كذلك كانت إيمانيةً، فاجتمعت الفطرة بالإيمان، وتنامت، وعظمت؛ حتى ميَّزت ذلك الرجل العظيم، في دوره العظيم، وإسهامه الكبير، في رفع راية الإسلام، وفي التصدي لأعداء الإسلام… وهكذا في كل المواطن، في كل المقامات.
في فتح مكة كان هو حامل راية رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”.
في كل المقامات، في كل المواقف كان أمير المؤمنين “عليه السلام” الحاضر كرجلٍ أول في أنصار رسول الله، وأعوان رسول الله، والمجاهدين في سبيل الله، بإسهامه الأول، فكان دائماً الذي يتجسَّد في أدائه السبق والتميز على أرقى مستوى.
إضافةً إلى ذلك، كان تكامله الإيماني، الذي جمع فيه بين الاستبسال في سبيل الله، والجهاد العظيم في سبيل الله، والشجاعة الخارقة في نصرة الإسلام، مع كماله في بقية المواصفات الإيمانية: رحمته بالمستضعفين، تواضعه للمؤمنين، فيما يتعلق بالجانب الإنساني في رحمته بالناس، فيما يتعلق بكماله العلمي، فيما يتعلق بحكمته، بتدبيره، كان يجسِّد الشخصية المسلمة المتكاملة، من كل الجوانب والأبعاد، بكل المواصفات اللازمة؛ ولذلك هو بقدر ما كان يحمله من استبسالٍ وتفانٍ في سبيل الله، وتحركٍ جادٍ، يحمل البصيرة، يحمل أعلى مستويات الوعي، هو الأُذُنُ الواعية، هو باب مدينة العلم، وكذلك هو باب دار الحكمة، هو الذي كان يحمل الحكمة، يحمل العلم، كان مستنيراً بنور الله “سبحانه وتعالى”، كان على بصيرةٍ عظيمةٍ وعالية، هو القائل في شعره يوم برز لعمرو بن عبد ود، قال عن نفسه: ((ذو نيةٍ وبصيرة)).
ذو نيةٍ وبصيرة
والصدق منجي كلَّ فائز
هو يحمل البصيرة، يحمل الوعي في حركته، يحمل المعرفة، يحمل العلم، يحمل النور، رجلاً عظيماً مستنيراً بنور الله، وهو الأُذُنُ الواعية، التي استوعبت هدى الله “سبحانه وتعالى”، وعظمة ذلك الهدى.
ومع ذلك بكله، في كل ما يمثله من أهمية، ارتقت به إلى أن يكون الشاهد، الذي يمثِّل النموذج المتكامل الذي يشهد على عظمة الإسلام، عظمة الرسالة، الذي تجلَّى فيه أثر رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” في تربيته، في حكمته، وهو الذي ربَّاه منذ طفولته، أثر تربية رسول الله، أثر تعليمه، أثر تأثيره في صياغة الشخصية الإسلامية، أثر الإسلام، وأثر القرآن؛ فقدَّم الشهادة من كل واقعه بتكامله ذلك على عظمة الإسلام، عظمة الرسول، عظمة الرسالة، فكان شاهداً لرسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، من حيث تقديمه النموذج الراقي، والعظيم، والمتميز، المتكامل عن الإسلام وأثره، وقيمه، وأخلاقه، عن أثره في بناء الشخصية الإسلامية.
لكن مع ذلك له دوره المهم فيما يتعلق بالأمة: في امتداد الإسلام بأصالته ما بعد وفاة النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، وفي التصدي للخطر الكبير الداخلي، الذي تمثله حركة النفاق في داخل الأمة.
كان للمنافقين حركتهم ونشاطهم، الذي كشفه القرآن، وتحدث عنه كثيراً في عصر رسول الله “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، وكان رسول الله يتصدى لهم مدعوماً ومؤيَّداً بالقرآن الكريم، بتعاليم الله “سبحانه وتعالى”، بما ينزِّله الله في القرآن الكريم مما يفضحهم، مما يكشفهم، مما يبيِّن طبيعة مؤامراتهم، وأتى الأمر من الله للنبي “صلوات الله عليه وعلى آله” في قوله “سبحانه وتعالى”: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}[التوبة: من الآية73].
فكان رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” يجاهد الكفار، ويحاربهم على المستوى العسكري وعلى كل المستويات، وكان أيضاً يجاهد المنافقين، ويتصدى لهم في داخل الساحة الإسلامية، من خلال الحركة الكبيرة التي تُحَصِّن المجتمع من تأثيرهم، والتصدي لهم بأشكال كثيرة، كان من بينها: التهديد، والوعيد، والضغط، والنفي لبعضهم، وكذلك السعي لإبطال تأثيرهم، وتقليص نفوذهم، والوصول بهم إلى مستوى التلاشي في فاعليتهم وتأثيرهم في الساحة الإسلامية، وكان يبذل الجهد الكبير في ذلك، ويشفع ذلك بتحذيره الشديد، الذي يأتي وفق آياتٍ قرآنية ينزِّلها الله “سبحانه وتعالى” عليه، منها: الوعيد بالقتل، الوعيد بالنفي… وغير ذلك، {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا}[الأحزاب: 60-61]، فكان رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” يتحرك بكل جدية، للتصدي لهم في داخل الساحة الإسلامية، وكانوا يظهرون- في ظاهر أمرهم- الإسلام، الشهادة بالشهادتين، التظاهر بالإسلام، بل منهم من بلغوا إلى حالةٍ خطيرةٍ جدًّا في أسلوبهم النفاقي، إلى درجة أن قال الله عنهم: {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ}[التوبة: من الآية101].
كان من الطبيعي ومن المتوقع جدًّا أن يكون تأثير المنافقين ما بعد وفاة رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” في داخل الأمة أكثر خطورةً مما كان في عصر رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، وأن يكون خطرهم أيضاً يتجه إلى جوانب كثيرة، تتجه إلى الجوانب الفكرية، والأخلاقية، وإلى التأثير والنفوذ في حركة الأمة… من جوانب كثيرة، وهذه مسألة واقعية، فهم لم ينتهوا مثلاً بوفاة رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، والنبي حذَّر منهم، وأكَّد على أنهم سيتواجدون في واقع هذه الأمة في كل جيل، وفي كل عصر، ونبَّه إلى خطورتهم.
أمَّا القرآن الكريم فحديثه عنهم حديثٌ واسعٌ جدًّا، وتحدَّث عنهم في بعض العبارات ليبيِّن أنهم أسوأ خطورةً، وأكثر خطورةً على الأمة، من أعدائها الآخرين؛ لطبيعة دورهم التخريبي في داخل الأمة، إلى أن قال في السورة التي هي باسمهم (سورة المنافقين)، قال عنهم: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[المنافقون: من الآية4]، {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}.
تحدَّث في الوعيد لهم بأنَّ موقعهم في جهنم هو أشد موقع، وأنهم إلى أشد عذاب، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}[النساء: الآية145]، نعوذ بالله، حالة رهيبة جدًّا في عذابهم، تبيِّن سوء فعلهم، وسلبية دورهم في تاريخ الأمة، وفي واقع الأمة.
ولذلك من بعد وفاة رسول الله “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” نشطوا في ساحة الأمة، في واقع الأمة، وتحرَّكوا أكثر فأكثر، والنبي “صلوات الله عليه وعلى آله” عندما قال في الحديث المروي عند المسلمين جميعاً، قال لعليٍّ “عليه السلام”: ((لا يحبك إلَّا مؤمن، ولا يبغضك إلَّا منافق))، بيَّن أنَّ علياً “عليه السلام” يمثِّل علامةً فارقة في ساحة الأمة، في واقعها الداخلي بين المؤمنين والمنافقين؛ لما يمثله من نموذجٍ أصيلٍ يعبِّر عن الإسلام بشكلٍ صحيحٍ وتام، ولطبيعة دوره في حركته لامتداد الرسالة، لامتداد الإسلام، لامتداد الحق، سليماً من الشوائب.
من أخطر الأدوار التي ينشط فيها المنافقون، هي: حالة التحريف لمفاهيم الإسلام، هم حركة زيفٍ في داخل الأمة، النفاق يعتمد على الزيف، يعتمد على التحريف للمفاهيم، للوقائع، للحقائق، هم حركة زيغ، تسعى إلى الزيغ بالأمة عن المسار الصحيح، عن الاتجاه الصحيح، الذي يمثِّل امتداداً صحيحاً كاملاً سليماً للإسلام في كل شيء: في عقيدته، وشرعه، وموقفه، ومشروعه الحضاري في الحياة.
فتعاظمت حركة النفاق في داخل الأمة، وسعت للسيطرة على مقاليد أمر الأمة، والانحراف بالأمة بشكلٍ كامل، كان من حمل لواء النفاق في داخل الأمة، وتحرَّك بحركة النفاق، ليصل إلى موقع القرار في الأمة، وليتمكَّن من السيطرة على الأمة، هم: بنو أميَّة، سعى الطغيان الأموي للسيطرة على الأمة بشكلٍ تام، والانحراف بها من موقع السلطة، من موقع القرار، والتحكم بالأمة من موقع القرار، وموقع الإدارة، وهذه من أخطر الأمور على الأمة.
كان عليٌّ “عليه السلام” يمثِّل الحصن الحصين، والسد المنيع، الذي تصدى للطغيان الأموي، وخاض معركته في التصدي للطغيان الأموي في كل الاتجاهات، وعمل على أن يربي الأمة التربية الإيمانية المتكاملة، وأن يتحرَّك بالإسلام وهو يقدِّمه، وهو يتحرَّك فيه أيضاً من موقع الإدارة، من موقع القرار، في الاتجاه الصحيح، وفق تعاليم الإسلام، فيما يمثل اقتداءً صحيحاً برسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، ويمثل تجسيداً حقيقياً للقرآن الكريم، فهو كان مع القرآن، والقرآن معه، مع الحق، والحق معه.
وواجه صراعاً مريراً وهو يحمي الأمة من حركة النفاق، ومن تأثيرها، وواجه المعاناة الكبيرة؛ نتيجةً للاختلال الذي كان قد تغلغل في أوساط الأمة في جوانب كثيرة، أفرزت ظواهر سلبية، كان من ضمنها: ظاهرة الخوارج التكفيريين، والذين يتطابق حال التكفيريين مثلاً في عصرنا هذا يتطابق معهم تماماً، ظاهرةٌ مُتَديِّنةٌ عمياء، تحركها أدوات النفاق، وتستغلها أدوات النفاق بكل وسائلها وأساليبها، تلك الظاهرة العمياء، التي تتدين بغير بصيرة، الدين في واقعها هو انطلاقة، هو حركة، هو اندفاع، لكنه ليس على بصيرة، ليس على بيِّنة، ليس وفق الاتجاهات الصحيحة، ليس مستنيراً بنور الله “سبحانه وتعالى”؛ إنما هو عقدة، عقدة، وضغينة وحقد، تدفع الإنسان لموقفٍ عدائيٍ معين على غير بصيرةٍ من أمره.
فاستطاعت حركة النفاق الأموي أن تستفيد من ظاهرة الخوارج، وأن توظِّفها ضد أمير المؤمنين عليٍّ “عليه السلام”، وصولاً إلى تلك المؤامرة الرهيبة في اغتيال عليٍّ “عليه السلام”، واستهدافه، عن طريق أحد المنتمين لتلك الظاهرة التكفيرية، وهو: ابن مُلجم لعنه الله، أشقى الأشقياء، الذي وصفه بهذا الوصف هو رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، قال عن قاتل أمير المؤمنين “عليه السلام” بأنه أشقى الأشقياء، وشبهه بعاقر ناقة ثمود؛ لأنه جلب الشقاء على الأمة، فكانت جنايته فظيعةً جدًّا، وهي جنايةٌ لحركة النفاق الأموي، هي وراء ذلك، هي من دبرت ذلك، هي من خططت لذلك، وكان من مخاطر ذلك إضافة إلى ما يمثله أمير المؤمنين “عليه السلام” من مقامٍ عظيم، وهو ولي الله، وهو إمام التقوى، وهو إمام وسيد المؤمنين، إضافةً إلى منزلته العظيمة عند الله “سبحانه وتعالى”، وما يمثله من امتدادٍ أصيلٍ للإسلام، فقد استفادوا من استهدافه “عليه السلام” ليتمكنوا أكثر.
وفعلاً كان من أكبر المخاطر والكوارث التي حدثت على الأمة بعد استشهاد أمير المؤمنين عليٍّ “عليه السلام”: تمكن حركة النفاق الأموي من السيطرة التامة على الأمة الإسلامية، ومن ثم اتجهوا في مشروعهم النفاقي الخاص بهم، الذي وصَّفه رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” بكلماته الجامعة، والمعبِّرة والمهمة: ((فاتخذوا دين الله دَغَلاً، وعباده خَوَلَا، وماله دُوَلَا))، حوّلوا الأمة الإسلامية بكل ما تملك، بكل إمكاناتها، بكل مقدراتها، إلى مشروعٍ استغلالي للسلطة، والثروة، والنفوذ، والمكاسب الشخصية، والأهواء، والرغبات، واتجهوا إلى كل ما يرون فيه من مفاهيم الإسلام، من شعائر الإسلام، من تعاليم الإسلام، عائقاً أمامهم، إلى استنساخ بدائل عنه، تخدمهم، تنسجم معهم، تعزز من نفوذهم، ويكون محسوباً على الإسلام، فقدَّموا صورةً أخرى، غير تلك الصورة التي كان يقدِّمها أمير المؤمنين، التي كانت تمثل حقيقة الإسلام، جوهر الإسلام، امتداده الأصيل، فقدَّموا صورةً مزيفة، فيها الكثير من الزيف، فيها الكثير من التحريف، وما بقي من شعائر الإسلام وظفوه، بعد أن جرَّدوه من دوره الحقيقي، من أثره الصحيح، فأزاحوا الإسلام كمشروعٍ للأمة، أزاحوا الإسلام كمشروعٍ للأمة، يربي الأمة، ينهض بالأمة، تتحرك الأمة من خلاله في دورٍ عظيمٍ متميز، واستغلوا إمكانات ومقدرات الأمة الإسلامية لصالح أطماعهم، وأهوائهم، ونزواتهم، ورغباتهم، وظلموا الأمة، استهدفوا أخيارها، انتهكوا حرماتها، استهدفوا مقدساتها، دمروا وأحرقوا كعبتها، أساءوا إلى الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله”، لعبوا دوراً تخريبياً شنيعاً امتدت آثاره ونتائجه فيما بعدهم، واستمرت إلى اليوم، وآثارها إلى اليوم تتمثل بكثيرٍ من المفاهيم الظلامية، والمرويات المكذوبة، والعقائد الفاسدة، إضافةً إلى تأثيرهم السيء عندما انحرفوا بالأمة عن المسار الصحيح، فبدلاً من أن يكون مسار الأمة مساراً تصاعدياً مع الزمن، تزداد به قوةً، ووعياً، وفهماً، وارتقاءً، كان مساراً هبوطياً نحو الأسفل، فإذا بنا في هذا الزمن نرى واقع أمتنا الإسلامية واقعاً هابطاً، مقارنةً ببقية الأمم، واقعاً تمكَّن اليهود الذين ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة أن يكونوا طرفاً مناوئاً- وهم حثالة- لأمةٍ قوامها أكثر من مليار مسلم، ولديها الإمكانيات الهائلة، ولكنها أصبحت غثاءً كغثاء السيل.
لماذا، ما الذي أوصل الأمة إلى ما وصلت إليه؟ ليس وليد اللحظة، ليس نتاجاً لزمنٍ محدود، أو لمتغيراتٍ محدودة، هو امتدادٌ طويل، كان له تأثيراته في واقع الأمة، فأوصلها إلى ما وصلت إليه.
بقي للحق امتداده، بقي للحق صوته، بقي للحق نقاوته التي استمرت في واقع الأمة، وإن كان محارباً، وإن كانت التوجهات المنافقة تتصدى له من موقع السلطة، من موقع السيطرة، من موقع القرار، لكنه بقي حاضراً، بقي لجهود أمير المؤمنين “عليه السلام”، وتضحياته، ومساعيه المباركة، أثرها الكبير، وحضور هذا الصوت، هذا الحق، هذا الهدى في الأمة، الذي امتد إلى عصرنا وزمننا نعمةٌ عظيمةٌ من الله “سبحانه وتعالى” علينا.
وبالتالي عندما نتطلع ونحن في هذا الزمن المتأخر، بعد كل ما قد مضى من الأحداث، والمتغيرات، والأحداث الرهيبة جدًّا في تاريخ أمتنا الإسلامية، والمتغيرات الكبيرة في تاريخ أمتنا الإسلامية، لكن بقي لنا المعالم واضحة، بقيت لنا كل معالم الأصالة التي تعبِّر عن أصالة الإسلام قائمة، بقي لنا القرآن الكريم، وبقي لنا ما يمثل امتداداً للقرآن الكريم، في معالم الحركة به في تاريخ أمتنا، وأرقى من كان يمثله، وأعلاه شأناً، وأعظمه مقاماً من بعد وفاة رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” وإلى اليوم، هو: أمير المؤمنين عليٌّ “عليه السلام”، فبقي أمير المؤمنين مدرسةً كاملة، عندما نتطلع إلى سيرته، عندما ندرس سيرته، نقرأ عنه، نرى كل ما يفيدنا، كل الذي يجسِّد بالفعل ما ورد في القرآن الكريم، نرى المعالم الواضحة التي نستفيد منها.
يبقى لنا أيضاً، إضافةً إلى ما يمكن أن نستفيده بشكلٍ كبير من أمير المؤمنين “عليه السلام” في دراسة سيرته، في قراءة تاريخه، وهو ما ينبغي أن نحرص عليه جميعاً، يبقى لنا أن نلحظ من ضمن ذلك، ومن أهم ذلك: أن نستفيد منه فيما يتعلق بالانطلاقة الإيمانية الجادة، الصابرة، المستبصرة في مواجهة التحديات مهما كانت، هذا من أهم الدروس التي نتلقاها من أمير المؤمنين عليٍّ “عليه السلام”.
وهو الذي عندما أخبره رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” بما سيواجهه، وأخبره بشهادته، وقال له: ((فكيف صبرك إذاً؟ قال: يا رسول الله إنها ليست من مواطن الصبر، إنها من مواطن البشرى والشكر))، هكذا كانت نظرته إلى الشهادة، وبهذه النظرة، بهذه الروحية العظيمة، كان ينطلق متفانياً في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، ومستبشراً، فكان يواجه التحديات مهما كانت، مهما كان حجمها؛ لأنه يحمل هذه الروحية، التي ترى في الشهادة في سبيل الله تعالى أنها نعمة عظيمة، وتوفيقاً إلهياً كبيراً نشكر الله عليه، نرجوه من الله “سبحانه وتعالى”، نطلبه من الله “سبحانه وتعالى”.
عندما أخبره الرسول أيضاً عن استشهاده، وعمَّا سيحدث له، قال أيضاً كلمته الشهيرة والعظيمة والمهمة: ((أفي سلامةٍ من ديني يا رسول الله؟ قال: نعم، قال: إذاً لا أبالي))، هكذا كان وعيه، هكذا كان إيمانه، هكذا يعِّلمنا أنَّ سلامة الدين هي أهم من كل شيء، وأن الإنسان المؤمن حقاً سيحرص قبل كل شيء، وفي مقدمة كل شيء على سلامة دينه، سيكون هو المعيار، مهما كانت التضحيات، مهما كان ما يقدمه الإنسان، أو مهما كان ما يفوت على الإنسان، المهم هو سلامة الدين.
وهكذا عندما نحب عليًّا المحبة الصادقة، نقتدي به، نتأثر به، نستفيد منه، يكون لمحبته تلك الأثر الكبير في أنفسنا، ونحن نتأثر بما كان عليه، بما جسَّده من أخلاق وقيم الإسلام والقرآن، ((أفي سلامةٍ من ديني؟)).
ثم عندما أصيب أيضاً قال كلمته الشهيرة: ((فُزتُ وربِّ الكعبة))؛ لأنه يرى المنهجية التي سار عليها في حياته منهجيةً يفوز من يسير عليها.
فنحن في ظل التحديات التي نواجهها عندما نقتبس من روحية علي، من إيمان علي، من وعي علي، من بصيرة علي، من نور علي؛ سنكون أقدر وأعلى في مواجهة كل التحديات، ونصل إلى الفوز العظيم؛ لأنها منهجيةٌ يفوز من يسير عليها.
نسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛