الإمام زيد عليه السلام .. علم وجهاد
أ.عبدالملك الشرقي
المرحلة العلمية ..
لاشك أن بني أمية نجحوا في تأسيس أرضية تحمل البناء الهش للإسلام الجديد .. إذ قاموا بتغيير مفاهيم كثيرة من مفاهيم الإسلام ، بغرض إفراغه من محتواه بما يجعله شكلياً لامعنى له في إعداد الإنسان الكامل وبناء الحياة ..
وقد عاش الإمام زيد “ع” في ظل هذه الإمارة وبنو أمية في أوج ملكهم وإحكام سيطرتهم ، وشاهد ما شاهد من نقض عرى الدين وتفتيت أواصره .. وقد واجه بنفسه اثنين من المقربين إلى هشام بن عبدالملك “الحاكم الاموي في عصره” وقام بمحاججتهما ورد كيدهما ، أما أحدهما فسرجون النصراني الوزير المالي لهشام ، وأما الآخر فيهوديٌ أحد مستشاريه وأمنائه ، وقد سمعه الإمام زيد”ع” يسب رسول الله عندما دخل على مجلس هشام ، فوثب إليه الإمام “ع” ليقضي عليه لولا أن هشاماً منعه وحال بجنوده بينهما ..
ولأن الإمام زيداً “ع” كان يدرك خطورة ذلك فقد سعى إلى بناء الأفكار وتصحيح المفاهيم ، وترسيم الدين على وفق ما أنزل أول مرة على خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم .. وكان لابد من ذلك كمرحلة مهمة لبناء الدولة الإسلامية .. وبالذات مع انتشار تلك المفاهيم التي تعيق الناس عن النهوض لتغيير واقعهم وبناء نهضتهم ، كمسألة الجبر والإرجاء ، وطاعة ولي الأمر الظالم .. وغيرها من المسائل الهامة التي تؤثر على حركة الناس وتعاملهم ..
ومن هنا كانت هذه الثورة العلمية التي اختطها الإمام “ع” في بادئ الأمر ضرورة لخلق مجتمع يفهم الإسلام على حقيقته ، ويدرك الدين بمحمديته .. حتى يكون قادراً على النهوض وبناء المجتمع السوي في كل شؤونه..
وقد انطلقت ثورته العلمية من خلال الخطوات الآتية :
1- إحياء المدرسة العلمية ..
ما من شك أن التعليم هي الوسيلة المثلى لخلق جيل واعٍ بدينه وواقعه ، متَّزنٍ في قوله وأفعاله ، ملتزم بأفكاره ومبادئه .. وغير ذلك لا ينتج عنه إلا عقلٌ سطحيٌ ، وثقافة منحسرة ، ووعي بسيط .. قد يتلاشى مع هبة ريح ، أو تمتمة ناعق .. وتنتهي بفوضى فكرية ، وتباينات أخلاقية .. كما هو حاصل في مجتمع اليوم ، كما كانت في كل المجتمعات بالأمس ..
ولذلك فقد أحيا الإمام زيد “ع” تلك المدرسة العلمية التي شيدها أبوه زين العابدين وأخوه الباقر عليهما السلام .. ومضى على بنائهما الأول يصيغ الفكر ويبني الروح ، ويُعِدُّ الرسالي كيما يبعث الروح الإسلامية في جسد الأمة من جديد بعد أن تم اغتيالها باغتيال امير المؤمنين علي “ع” ثم انتزاء معاوية بحكم الامة فالفتك بالإمام الحسن”ع” وانتهاء بواقعة كربلاء الأليمة ..
وقد نتج عن تلك المدرسة التي أرسى بناءها الإمام زيد”ع” بيئة أصولية فقهية ثورية جهادية .. أعادت إنتاج الفكر وهيكلة الحياة ، وبناء المجتمع عبر الأجيال المتعاقبة .. من خلال موروثه العلمي ، ورصيده الجهادي .. الذي أنتجتهما هذه المدرسة ..
وكان من أبرز روادها : الإمام يحيى بن زيد، والإمام عيسى بن زيد، والحسين بن زيد، والإمام جعفر الصادق، والإمام عبد الله بن الحسن الكامل، وأبو خالد الواسطي، وشعبة بن الحجاج العتكي، ومنصور بن المعتمر، وثابت بن دينار الثمالي، وجابر بن يزيد الجعفي، وسلمان بن مهران الأعمش .. وغيرهم الكثير بمن فيهم أئمة المذاهب الأربعة .. وذلك أن الشافعي أخذ العلم عن يحيى بن خالد المدني، وإبراهيم بن أبي يحيى المدني، وهما قرءا على الإمام زيد بن علي، وكذلك أبو حنيفة النعمان بن ثابت المتوفى سنة 150من تلامذة الإمام زيد بن علي وأتباعه، ومالك بن أنس الأصبحي المتوفى سنة 179 قرأ على الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهم السلام، وأفتى بالخروج مع محمد بن عبدالله وأخيه الإمام إبراهيم بن عبدالله عليهم السلام، وأحمد بن حنبل المتوفى سنة 24هـ أخذ عن الشافعي وألف المناقب..
2- إعادة القرآن إلى واقع الأمة ..
لا يخفى على أحد أن للسلطان الاموي الدور الأبرز في إفراغ القرآن من محتواه ، وجعله قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً منها .. إلى جانب التلبيس للمفاهيم الأساسية وإخراجها من سياقها المطلوب ، وتحويرها من معناها المنزل ..
وهنا سعى الإمام زيد “ع” لإرجاع الناس إلى القرآن .. باعتباره الدستور الأول الذي لابد أن تستقي منه الأمة مفاهيمها ، وتأخذ عنه آراءها ، وتحتكم إليه عند الاختلاف ، وترجع إليه لدى النوازل ..
فكان من أهم الخطوات التي سلكها لإعادة القرآن إلى واقع الأمة :
إحياء عظمة القرآن في النفوس ، فكانت وصاياه عظيمة في ذلك .. منها قوله “ع” : (وأوصيكم أن تتخذوا كتاب اللّه قائداً وإماماً، وأن تكونوا له تبعاً فيما أحببتم وكرهتم، وأن تَتَّهِموا أنفسكم ورأيكم فيما لا يوافق القرآن، فإن القرآن شفاءٌ لمن استشفى به، ونورٌ لمن اهتدى به، ونجاة لمن تبعه، من عمل به رَشَدَ، ومن حكم به عدل، ومن خاصم به فَلَج، ومن خالفه كَفَر، فيه نبأُ مَنْ قبلكم، وخبرُ معادكم، وإليه منتهى أمركم، وإياكم ومشتبهات الأمور وبدعها، فإن كل بدعة ضلالة) ..
توضيح معالم القرآن وتبيين مفاهيمه .. من خلال تفسيره القرآن في المحافل المختلفة ، والمناسبات المتعددة ، وما وجد لذلك فرصة .. حتى وهو في السجن فقد كان يعطي السجناء درساً في تفسير القرآن .. قال الإمام المرشد بالله: أخبرنا الشريف أبو عبدالله، قال: أخبرنا محمد بن جعفر النجار قراءة عليه، قال: حدثنا إسحاق بن محمد التمار المقري، قال: حدثنا محمد بن سهل العطار، قال: حدثنا عبدالله بن محمد بن عبدالله الأنصاري البلوي، قال: حدثنا إبراهيم بن عبدالله بن يعلى، قال: حدثني أبي، قال سمعت أبا غسان الإزدي يقول:
قدم علينا زيد بن علي الشام أيام هشام، فما رأيت رجلا ًكان أعلم بكتاب اللّه منه، ولقد حبسه هشام خمسة أشهر يقص علينا – ونحن في الحبس – تفسير الحمد وسورة البقرة، يَهُذُّ ذلك هذاً … ) ..
مناقشة تلك الأفكار المنحرفة ، ومناظرة أصحابها .. ممن ظنهم عامة الناس علماء أجلاء متقين ، بينما هم خواء زينهم الشكل وأبدعهم المنظر ، لا يملكون من الحجة إلا ما موهته الشبه ، وفرضته الملوك ..
وقد أوجدت مناظراته مع الخصوم ، ومناقشته لآرائهم ثورة فكرية ونهضة علمية .. أعادت للأمة رسم الثقلين “الكتاب والعترة” اللَّذين تركهما رسول الله لهم أمناً من الضلال .. إذ كان القرآن والإمام زيد قرينين يتجلى كلٌّ منهما بالآخر .. ولذا فهو “حليف القرآن” ..
3- تصحيح مفهوم السنة النبوية ..
ابتدأ وضع الأحاديث والكذب على رسول الله منذ عهده صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكنها كانت خافتة لترصد القرآن بفضح المنافقين ، وبالتالي خشيتهم أن تنزل فيهم سورة تكشف أمرهم وتفضح سوءتهم .. فكانوا يخففون من وطأتهم ويقيدون من حركتهم في شتى امورهم الكيدية على تشويه الإسلام وتلبيس أمره .. وقد حكى الله هذا بقوله تعالى : {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ } ..
وما إن توفي رسول الله وانقطعت صلة السماء بالأرض حتى ازدادت حدة الوضع للأحاديث المكذوبة ، وترافق مع ذلك الحث على أهمية اتباع السنة ولزوم أمرها من قِبلِ الملوك ، لا حباً في السنة ولا اهتماماً بالشريعة .. ولكن لما في السنة من أحاديث موضوعة ، تشيد مملكتهم ، وتبقي عروشهم .. وفوق ذلك تلبس على العامة دينهم ..
وبالفعل .. فقد صار الاهتمام بشأن السنة مقدماً على الاهتمام بالقرآن ، بل وبلغ الأمر حد الإفراط ، لدرجة ان يُأمنوا بكل ماسمعوه مروياً عن رسول الله حتى وإن خالف القرآن وتناقض معه ..
وقد حدا بالإمام علي “ع” إن يقف حائلاً أمام ذلك الهرج عندما ازدادت شدتها في حقبته ، فبين في أكثر من موقف حقيقة السنة وخطورة الوضع فقال في ذلك كلاماً يوضح مفهوم السنة النبوية ..
والأمر لم يقف على تلك الفترة ، بل امتد إلى الأزمنة المتتابعة عبر خليط من الأهواء ، وتمازج من الآراء .. إذ استمرت حركتها ، وتتابعت وسائلها لما فيها من التأثير الملحوظ على تدين الناس وإسلامهم ..
وهنا وقف الإمام زيد “ع” ليبين لهم أمر السنة وحقيقتها .. فمما قاله في شأن السنة : (كتبت تسألني عن رواة الصحابة للأثار عن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، وقلت: إنك قد نظرت في روايتهم فرأيت فيها ما يخالف الحق. فاعلم يرحمك اللّه أنه ما ذهب نبي قط من بين أمته إلا وقد أثبت اللّه حججه عليهم، لئلا تبطل حجج اللّه وبَيِّناته، فما كان من بدعة وضلالة فإنما هو من الحَدَث الذي كان من بعده، وإنه يكذب على الأنبياء صلوات اللّه عليهم وسلامه.
وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((أعرضوا الحديث إذا سمعتموه على القرآن فما كان من القرآن فهو عني وأنا قلته، ومالم يكن على القرآن فليس عني ولم أقله، وأنا برىء منه)).
وهنا لم يقم الإمام زيد “ع” بنفي السنة تماماً .. كما حدث من بعدُ على إنكار السنة وإبطال وقوعها ، كردة فعل على من أفرط في إثبات السنة كما حدث من البعض ، أو بغرض هدم الإسلام كما وقع من البعض الآخر ..
والأمر يقف عند التوسط بين الإفراط والتفريط ، فلا الإثبات مطلقاً ولا النفي مطلقاً .. وإنما السنة حق ومصدر من مصادر التشريع كما قال الإمام زيد “ع” : ( ما ذهب نبي قط من بين أمته إلا وقد أثبت اللّه حججه عليهم، لئلا تبطل حجج اللّه وبَيِّناته ..) .. لكن على الإنسان أن ينظر في أمرها ، ويأخذ بما وافق القرآن منها.. كما بين “ع” (فما كان من بدعة وضلالة فإنما هو من الحَدَث الذي كان من بعده، وإنه يكذب على الأنبياء صلوات اللّه عليهم وسلامه.
وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((أعرضوا الحديث إذا سمعتموه على القرآن فما كان من القرآن فهو عني وأنا قلته، ومالم يكن على القرآن فليس عني ولم أقله، وأنا برىء منه)).
المرحلة الجهادية ..
ثم سعى الإمام زيد “ع” إلى إحياء مبدأ الجهاد في واقع الأمة ، وذلك من خلال ترسيخ الأولويات الآتية :
1- الخروج على الظالم ..
لاشك أن من أولويات بناء الدولة الإسلامية هو إزالة الحاكم الظالم .. حتى يتسنى للشعب أن يضعوا مكانه من يملك الأهلية لإقامة الحق وإرساء العدل .. وهذه الأولوية ” الخروج على الظالم” هي التي أحياها الإمام زيد “ع” من جديد .. بعد أن كادت تندرس من حياة الشعوب إثر الثقافات المغلوطة التي سعى بنو أمية لفرضها في عقول العامة حتى يحفظوا ملكهم من غضب الشعب وثورته العارمة ..
وقد استخدمت الدولة الأموية كل وسيلة لإقناع الناس على وجوب طاعة الحاكم الظالم مالم يُظهر كفراً بواحاً على حد زعمهم .. ولم يُخف التأريخ أبرز تلك الأساليب المعتمدة كالترغيب والترهيب واستخدام الفتاوي المضللة من قِبَلِ علماء السوء الذين صنعوهم لهذا الغرض الخطير ..
وقد سعى الإمام زيد “ع” لإرساء مبدأ ” الخروج على الظالم” ، من خلال الآتي :
توعية المجتمع بحقيقة الظالم عند الله ، وانه ملعون .. حتى أنه كان يحذر من الصلاة خلفهم وتكثير جماعتهم .. وقد أجاب من سأله عن الصلاة مع أئمة الجور بقوله : ( أني أرى لك ألا تُكَثِّر جماعاتهم، فإنهم ملعونون، والله إن الظالم إذا ذكر اللّه بلسانه لعنته الملائكة عليهم السلام، وقالت: لست من أهل الذكر. وإنه ليتكلم بكلمة الإخلاص، فتقول الملائكة عليهم السلام لست من أهلها).
2- حض الناس على إحياء مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. من خلال التذكير المستمر بماهيته وأهميته وعاقبته … إلخ
قال “ع” : ( واعلموا أن فريضة اللّه تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا أقيمت له استقامت الفرائض بأسرها، هَيِّنُها وشَدِيْدُها، وذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو: الدعاء إلى الإسلام، والإخراج من الظُّلْمَة، ورَدّ الظالم، وقِسْمَةِ الفَيء والغنائم على منازلها، وأخذ الصَّدقات ووضعها في مواضعها، وإقامة الحدود، وصِلَةِ الأرحام، والوفاء بالعهد، والإحسان، واجتناب المحَارم، كل هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول اللّه تعالى لكم: “وَتَعَاوَنُوْا عَلَىْ البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوْا عَلَىْ الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوْا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيْدُ العِقَابِ” ) ..
3- استنهاض العلماء للقيام بواجبهم تجاه ردع الظالمين .. باعتبارهم الشريحة التي تثق العامة بهم ، وتنهج نهجهم ، وقد أرسل إليهم برسالة عظيمة .. عرفت برسالة الإمام زيد إلى علماء الأمة .. فكان مما قال لهم : (فيا علماء السوء، هذا مِهَادكم الذي مَهَدْتمُوه للظالمين، وهذا أمانكم الذي ائتمنتموه للخائنين، وهذه شهادتكم للمبطلين، فأنتم معهم في النار غداً خالدون: { ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُوْنَ فِيْ الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَبِمَاكُنْتُمْ تَمْرَحُوْنَ}، فلو كنتم سَلَّمتم إلي أهل الحق حقهم، وأقْرَرْتم لأهل الفضل بفضلهم، لكنتم أولياء اللّه، ولكنتم من العلماء به حقاً الذين امتدحهم اللّه عز وجل في كتابه بالخشية منه.
فلا أنتم عَلَّمتم الجاهل، ولا أنتم أرشدتم الضَّال، ولا أنتم في خلاص الضعفاء تعملون، ولا بشرط اللّه عليكم تقومون، ولا في فِكَاكِ رقابكم تعملون.
يا علماء السوء اعتبروا حالكم، وتفكروا في أمركم، وستذكرون ما أقول لكم.
يا علماء السوء إنما أمنتم عند الجبَّارين بالإدْهَان، وفزتم بما في أيديكم بالمُقَارَبَة، وقربتم منهم بالْمُصَانَعَة، قد أبحتم الدين، وعطلتم القرآن، فعاد عِلْمُكم حجة للَّه عليكم، وستعلمون إذا حَشْرَجَ الصَّدر، وجاءت الطامة، ونزلت الدَّاهية) .
4- استنفار الشعب ..
لا يمكن تطبيق ذلك المشروع الإسلامي العظيم مالم يكن للشعب دور في إزاحة الظالمين من عرش الحكم وكرسي الولاية .. ولذا فقد توجه الإمام “ع” بطلب الإعانة من الناس في الوقوف في وجوه الظالمين حتى يتسنى له إقامة الحق وإرساء العدل .. فقال 🙁 فإعينوني على أنباط أهل الشام، فوالله ما يعينني عليهم أحد إلا أتى يوم القيامة آمناً حتى يجوز على الصراط ويدخل الجنة) .
ولم يهتم الإمام زيد “ع” بحجم الشعب من حيث الكثرة والعدد بقدر ما كان يهتم بنوعية الأفراد الذين سيحملون الثورة ويواجهون الطغاة .. إذ أن السيل الجارف من الشعب قد يصبح غثاء إذا لم يكن يحمل وعياً كاملاً بقضيته ، ويمتلك مبدأً عادلاً في توجهه ، ويكون ذا دين وورع في معاملته .. ومن هنا فقد رسم الإمام زيد “ع” طبيعة الثورة ونوعية أصحابها عندما علم بدغل السريرة وسوء النية من بعض اتباعه .. فقال “ع” : (أيها الناس إنه لا يزال يبلغني منكم أن قائلاً يقول: إن بني أمية فَيْئٌ لنا، نخوض في دمائهم، ونرتع في أموالهم، ويقبل قولنا فيهم، وتُصَّدق دعوانا عليهم!! حكم بِلا علم، وعزم بلا روية، جزاء السيئة سيئة مثلها، عجبت لممن نطق بذلك لسانه، وحدَّثته به نفسه، أبكتاب اللّه أخذ؟ أم بسنة نبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم حكم؟ أم طَمَعَ في ميلي معه، وبسطي يدي في الجور له؟ هيهات هيهات، فاز ذو الحق بما يهوى، وأخطى الظالم بما تمنى، حق كل ذي حق في يده، وكل ذي دعوى على حجته، وبهذا بعث اللّه أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام، ولم يخُطِ المنصفُ حضَّه، ولم يُبْقِ الظالم على نفسه، أفلح من رضي بحكم اللّه، وخاب من أرغم الحقُّ أنفَه، العدل أولى بالآخرة ولو كره الجاهلون..
حق لمن أمر بالمعروف أن يجتنب المنكر، ولمن سلك سبيل العدل أن يصبر على مرارة الحق، كل نفس تسموا إلى مناها، ونعم الصاحب القنوع، وويل لمن غَصَب حقاً، أو ادعا باطلاً.
(أيها الناس، أفضل العبادة الورع، وأكرم الزاد التقوى، فتورعوا في دنياكم، وتزودوا لآخرتكم، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وإياكم والعصبية، وحمية الجاهلية، فإنهما يمحقان الدِّين، ويورثان النفاق).
وهكذا نلا حظ في هذه العجالة أن الإمام زيداً جمع بين العلم والجهاد لتثبيت الشريعة الإسلامية وتحقيق العدالة في المجتمع ، وبالتالي لا مجال للفصل بينهما لأن كليهما مرتبط بحجزة الآخر لا انفصام بينهما في تحقيق مراد الله على هذه الأرض .
وصلى الله وسلم على محمد وآله