عمران نت /8 / 5 / 2020
// مقالات // د. علي النمر
* كاتب لبناني. متخصص في الادارة المالية.
يشهد العالم اليوم فوضى إقتصادية ومالية وسياسية وصحية، بدءًا من خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، مروراً بالصراعات التجارية والتكنولوجية بين الدول الكبرى، وصولاً إلى تفشي فيروس كورونا. كل ذلك كان نتاج خلل في النظام العالمي وغياب التعاون الدولي، ووجود عالم بدون قيادة حكيمة، وخاصة إنّ هناك صراعاً وسباقاً على التربع على عرش قيادة العالم بين العملاقين الصيني والامريكي.
السؤال المطروح هو: من هو القائد الذي سيحكم العالم في المستقبل؟.
بعد تفشّي فيروس كورونا، الّذي عبر القارات، فعزل الدول عن بعضها البعض، ناهيك عن الخسائر في الأرواح، أدّى إلى خسائر كبيرة في الإقتصاد العالمي. حدث ذلك نتيجة تباطؤ النمو العالمي، وتوجه العديد من الدول إلى الاستدانة،حيث إن هناك أكثر من 100 دولة طلبت مساعدات عاجلة من صندوق النقد الدولي، فضلاً عن انهيار أسعار النفط عن قصد لأنه محكوم بقرار سياسي، وكذلك تراجعت مؤشرات الأسهم العالمية، بالإضافة إلى إفلاس الشركات، والتعثر في سداد القروض، وارتفاع البطالة. لذلك فإنّه من المتوقع في نهاية العام 2020، أن يزيد إجمالي الدين العالمي بحدود 20 بالمائة ليصل إلى 310 تريليون دولار، وأن ينخفض الناتج القومي العالمي بحدود 10 بالمائة ليصل إلى 78 تريليون دولار.
وفي ظل انتشار كورونا في أمريكا بشكل مخيف، وعلى الرغم من أنه سيضخ مبلغ 2.3 تريليون دولار في الأسواق المحلية بهدف دعم الإقتصاد ومواجهة التبعات الناجمة عن تفشي هذا الفيروس، أعلن الرئيس الأميركي عن كارثة كبرى في جميع الولايات. كما نلاحظ تعثر أمريكا بدورها القيادي، نتیجة التعاطي السلبي مع الدول، حيث كان شعار ترامب أمريكا أولاً. هذه الأزمة أفقدت الولايات المتحدة الكثير من إنجازاتها وهيمنتها ودورها وقوتها الناعمة. وفي المقلب الآخر أثبتت الصين تفوقها المذهل في السيطرة على هذا الفيروس، لتتحول بذلك من بلد موبوء إلى منقذ للعالم من خلال تقديم المساعدات الطبية مجاناً إلى أكثر من 100 دولة دون تمييز بين لون أو عرق أو دين.وكأنها تقدم نفسها القائد الجديد لإدارة العالم.
تمتلك الصين حالياً ثاني أقوى إقتصاد في العالم، حيث وصل النمو الاقتصادي إلى 6.1% في عام 2019، وبلغ حجم الناتج القومي14000 مليار دولار في عام 2019، وتعتبر المصنع الأول عالمياً، وأكبر دولة منتجة ومصدرة للسلع. ونتيجة سياسة الإصلاح والإنفتاح التي اتخذتها الصين بعد عام 2001، بلغت مساهمة الصين في النمو الإقتصادي العالمي 27.5% في عام 2018.
أما على مستوى أمريكا، فقد صدرت أرقام اقتصادية جديدة بخصوص موازنتها، حيث بلغت قيمة إيراداتها 3.5 تريليون دولار، فيما بلغت المصاريف 4.5 تريليون دولار، أي بعجز تريليون دولار. وقد وصل حجم الدين الامريكي إلى 22 تريليون دولار في عام 2019، وتدنّى النّمو الإقتصاديّ إلى أقل من 2% في العام الماضي.
ونتيجة الصّراع التّجاريّ بين البلدين، فقد انخفض
التبادل التجاري في عام 2019 مقارنة بالعام 2018، بسبب العقوبات الأمريكية، فالصين صدرت العام الماضي لأمريكا 418 مليار دولار، واستوردت منها ما قيمته 123 مليارا، بينما في العام 2018 تم تصدير 558 مليارا، واستيراد أكبر بقيمة 178 مليارا. وهذا الصراع سيؤدي بالعولمة إلى الدخول في مرحلة جديدة تقضي إلى تقسيم السوق العالمية بين الصين والولايات المتحدة. وبما أن التقنية الصينية رخيصة، فإنّ غالبية البلدان الصّاعدة اقتصاديًّا والأفريقيّة منها ستلتحق بالقاطرة الصّينية.
لكن التوتر بين القطبين يصل إلى أعمق من مجرد خلاف تجاري، لأن عمق هذا الصراع هو حول الملكية الفكرية، وقد تربعت الصين على عرش العالم في كل ما يتعلق بعدد الباحثين، وعدد طلبات براءات الاختراع، وعدد تراخيص الملكية الفكرية الصادرة، وأعتقد أن هذه الأسباب هي الأسرار الحقيقية وراء تحقيق الصين للمعجزة التنموية. وبهذا الصدد صرح الرئيس الأمريكي مرات عديدة، يتهم الصين بسرقة تريليونات الدولارات من الولايات المتحدة من خلال سرقة حقوق الملكية الفكرية، ولهذا الولايات المتحدة تطالب الصين بدفع تعويضات لها.
بالإضافة إلى الصّراعات المذكورة أعلاه، يوجد نموذج آخر من الصّراع، وهو الصّراع للسّيطرة على شبكة الإنترنت، وسينتهي هذا الصراع إلى تقسيم الإنترنت إلى قسمين بين الصين وامريكا في عام 2028 بحسب تصريح المدیر التنفیذي السابق لشركة غوغل.
وعلى الرغم من إصرار الولايات المتحدة في إستخدام الدولار كسلاح استراتيجي دفاعاً عن مصالحها في العالم، وهو سلاح أهم من الطائرات والقنابل، لأنها تستطيع أمريكا به القضاء على أي دولة أو أي مؤسسة مالية. ولكن في المقابل تعتزم الصين على إتخاذ خطوة جدية لوقف الهيمنة العالمية للدولار من خلال السعي لتحييده من التبادلات التجارية. لذلك تحاول الصين إبرام الصفقات التجارية مع العديد من الدول بالعملة المحلية بهدف إضعاف الدولار.
كما إن الصين تعد أكبر حامل لسندات الخزانة الأمريكية التي تبلغ 1.13 تريليون دولار، وقد تدفع بكين إلى بيعها مع إستمرار المشاحنات بين البلدين. تعتبر هذه السندات “سلاح نووي” لدى الصين، لأنها ستسبب فوضى عارمة بالأسواق العالمية في حال أقدمت على بيعها.
بالعودة إلى التاريخ، كانت ألمانيا وروسيا تحاولان العثور على مكان تحت الشمس في النظام العالمي القائم آنذاك، وتسعيان إلى الإنتقام من مظالم تاريخية لحقت بهما، بيد أن أمريكا الصاعدة بدورها كانت لهما بالمرصاد، وقصمت ظهرهما في حروب وسباقات تسلح مدمّرة. كل هذا يدل على أن ألمانيا وروسيا يمكن أن تنضمّا إلى الصّين ليشكّلوا بذلك تحالفًا قويًّا مع بعض الدّول الأخرى، كالهند المؤهلة لأن تمتلك ثاني أو ثالث أكبر إقتصاد في العالم في المستقبل القريب.
إنّ جوهر الصراع القائم بين الصين وامريكا هو نابع من خوف الأمريكي من تربع الصين على عرش قيادة العالم. وبما أنّ النّموّ الاقتصادي الصيني يفوق النّموّ الإقتصاديّ الأمريكيّ على الأقل ب 4%، هذا عامل كبير لتفوق العملاق الصيني على أمريكا في السنوات القادمة. تشير الأبحاث الامريكية إلى أنه في العام 2030 سيكون حجم الإقتصاد الصيني ضعفي حجم الإقتصاد الأمريكي. أمام هذا الواقع من التقدم التقني والعلمي الصيني، بالإضافة إلى التفوق في النمو الإقتصادي، لذلك ستضطر أمريكا من أجل وقف الزحف الصيني للجلوس معها من أجل الإتفاق على إدارة العالم سوياً، فمن المرجح أن نشهد ولادة للنظام العالمي الجديد، وبذلك تسقط أحادية القرار الأمريكي التي إستمرت لعقود من الزمن.