اليمنُ والحضورُ الفاعل
عبدالرحمن مراد
اليمن التي صهرتها الحرب أصبحت اليوم أكبر حجماً من مستوى تفكير رجال الحرب والصراع والتدمير من قادة قوى الشر العالمي، ولذلك سيصعب عليهم اليوم فهم المستوى المتقدم للحالة السياسية اليمنية، وفي مجمل الأحوال كُـلّ رموز الحرب اليوم من الذين وقفوا في صف العدوان الذي أدارته الصهيونية العالمية مع أمريكا وبأدوات يمنية سيطويهم التاريخ في صفحات صفراء بائسة من كتابه، ومثلما كان للحرب والصراع والتدمير رجال سيكون لليمن الجديد رجال آخرون وتلك هي سنن الله في كونه.
لسنا في اليمن أقل شأناً من أي بلد يمتد عميقًا في التاريخ، فلنا حضورنا الحضاري المؤثر في المجتمعات الحضارية القديمة ونحن قادرون اليوم أن نسجل ذات الحضور وبذات الفاعلية التي كنا عليها وأكثر إذَا تمكّنا من تفعيل الدور التاريخي والحضاري والثقافي في مساراتنا الجديدة؛ فثمة مقومات نحن نملكها اليوم بها ومن خلالها سوف نستعيد وعينا بذاتنا وبقيمتنا وبأثرنا في رسم السياسات للخارطة الدولية.
لا يمكن للتنين الصيني أن يستعيد طريق الحرير دون أن يكون اليمن حاضراً في مسار ذلك الطريق بل وفاعلاً بقوة حضوره الجغرافي والحضاري والتاريخي، فالتفكير في هذا الاتّجاه سوف يجعل الحسابات مرتبكة لبعض دول العالم كما أنه سيفتح أفقاً حضارياً متفاعلاً مع المستقبل من حَيثُ البناء والتحكم بمسارات المستقبل ومن حَيثُ استعادة مركزية اليمن في البعد الاقتصادي الدولي وأثرها فيه وحيويتها التفاعلية في رسم مساراته والتحكم ببعض خيوط اللعبة في السياسيات الدولية، فالحضور التفاعلي في رسم السياسات الدولية يجعلك تنتقل من حالة المستقبل الذي يتقبل الواقع إلى حالة الصناعة من خلال حضورك وتأثيرك.
علاقة الصين في ظل مشروعها الاقتصادي العملاق “طريق الحرير” باليمن علاقة ضرورة، وعلاقتنا بها في ظل ما لحق البنية التحتية من أضرار جراء الحرب والعدوان علاقة احتياج، لذلك فمبادرة الصين “الحزام والطريق” يمكن التفكير بها وبما يخدم المصلحة الوطنية والبنى التنموية المدمّـرة، ومثل ذلك قد يحد من كلفة الإعمار والبناء الذي يحتاج جهداً ووقتًا ومالاً، فالتعاضد بين الحضارتين اليمنية والصينية تعاضد تأريخي ولا يمكن الفصل بينهما عبر حقب التاريخ المختلفة، كما أن الصين قد تشكّل بديلًا اقتصاديًّا فاعلًا يحفظ لليمن حالة التوازن بعكس المشاريع التي تريد فرض هيمنتها الاقتصادية والسياسية.
يفترض بنا الوقوف عند فكرة البناء كرديف لفكرة النصر كدال يرشد ويهدي إلى المستقبل وبمثل ذلك نملك مقومات الاستمرار والتكامل إذَا كثّـفنا الدراسات حول الآفاق والمقدرات والمعضلات، ولا يمكن لذلك أن يتحقّق دون استنفار العقول والقيام بالدراسات التي تعين صناع القرار في هذا البلد على اتِّخاذ القرار اللازم في الزمن الفارق.
لقد قال التاريخ إن الحرب قد تصنع واقعاً جديدًا لمن يحمل مشروعاً وطنياً للبناء، وليست مشروعاً تدميرياً إلا عند الذين يقتاتون من نزيفها، أما صاحب المشروع فالانتصار هو محور ارتكازه لبناء المستقبل.
ومن محاسن الحروب والصراعات أنها تحدث فرزاً وتمايزاً فيمتاز أهل الخير والبناء ويمتاز أهل الشر والبغي وتكون الصورة أكثر وضوحاً للناس، وهذا هو عين ما قالت به الحرب في اليمن على مدى السنوات التي سلفت، فالذين يدعون الشرعية اتضح أنهم لا يملكون قراراً وأنهم ليسوا أحراراً والذين وقفوا إلى صف الوطن؛ دفاعًا وذودًا عن حياضه رفعوا شعاراً مضمونه “يد تحمي.. ويد تبني” وقد دل الواقع أنهم عند مستوى الشعار من حَيثُ الدفاع وهمّ البناء.
كُـلّ مؤشرات الواقع اليوم تقول إن حرب الإبادة في غزة والصراع في طرق الملاحة الدولية سوف تفضي إلى الحرب العالمية الثالثة التي سوف تسفر عن واقع يتغاير كُـلّ التغاير عما قبله، فالتراجع في الدور الأمريكي في إدارة النظام العالمي وفرض مضامين الهيمنة سجل تراجعاً مذهلاً مع الموقف المخزي من حرب الإبادة في فلسطين ومساندة “إسرائيل” عسكريًّا في البحر الأحمر في حين تقفز الصين وروسيا إلى الواجهة بقوة الأثر والتأثير، ولذلك لن يطول بنا الأمد حتى نرى التنين الصيني يقود العالم الجديد كقطب من ضمن عدد من الأقطاب، ومثل ذلك يفرض علينا تفكيراً استراتيجياً بما يخدم أمتنا ووطننا ومجتمعنا واقتصادنا، فلدينا مع الصين مصالح مشتركة إذَا أحسنا إدارة تلك المصالح في بداية التكوين أفضل لنا من بعده؛ لأَنَّنا في البداية نملك القدرة على فرض الشروط المناسبة.
ليكن شعارنا القديم -الجديد حاضرًا بقوة “يد تدافع.. ويد تبني” حتى نخرج بمعادلة سياسية جديدة لنشعر أن الدم المسال لم يذهب عبثاً بل فرض حضوراً قوياً ومؤثراً في إدارة مصالح الأُمَّــة وبما يحفظ لنا العزة والكرامة والقوة والحرية والسيادة.