إنجاز على مبدأ أن تأتي متأخراً
عبدالرحمن الأهنومي
جاء إقرار المدونة السلوكية كخطوة أولى نحو تطبيق مفهوم المسؤولية أمانة وخدمة للناس، والمأمول هو التطبيق العملي لهذه المدونة التي اشتملت على قيم وأخلاقيات والتزامات مرتبطة بالأهداف العظيمة التي نصت عليها المدونة كترجمة للتوجهات الثورية الإيمانية في بناء دولة يمنية لخدمة الناس بكل أمانة وإخلاص.
من حيث المبدأ، فلم تكن مدونتنا السلوكية هي الوحيدة في العالم، وليست بدعة ابتدعتها الدولة اليمنية في صنعاء، وليست الدولة الوحيدة التي تصدر مدونة سلوكية في ظروف كالتي نعيشها نحن اليوم، فكل الحكومات والأنظمة السياسية في العالم لديها مدونات سلوكية للمسؤولين والموظفين، تحدد فيها المبادئ والقواعد والأهداف والغايات من المسؤولية والوظيفة العامة، وتنظم علاقات الرئيس بالموظف وموظف الخدمة العامة بالمواطن، ويمكن لأحدنا أن يفتح فوراً على الموقع الإلكتروني لمكتب مجلس الوزراء البريطاني ليجد آخر نسخة من مدونة سلوك المسؤولين والموظفين في بريطانيا ويقارن على كل حال مدونتنا السلوكية مع مدونتهم، الصين مثلا أو اليابان ومعظم الدول العربية تضع مدونات سلوكية تنظم العمل الوظيفي وقواعده وأساسياته، ولا أدري هل نحن شيئ مختلف عن العالم بكله حتى يعترض المعترضون على مدونة السلوك الوظيفي!
تاريخياً نشأت مدونات السلوك الوظيفية مع نشأة الدولة، وحسب المستشار د.أحمد محمد جمعة فإن أقدم مدونة سلوك أصدرها ‘بتاح حوتب’ الوزير الأول في عهد فرعون من الأسرة الخامسة، ما بين عامي 2414 و2375 قبل الميلاد، ولا تخلو المؤسسات والهيئات والوظائف وحتى المنظمات والشركات من وجود مواثيق الشرف أو مدونات السلوك أو قواعد التصرف، بل إن كل مؤسسة في العالم تهتم بوضع مدونة لقواعد السلوك خاصّة بها، ولم نجد أحداً يساجل تلك الأنظمة والحكومات والهيئات والمؤسسات أو يعترض على مدوناتها، واليمن تأخرت في هذه الخطوة كثيرا وتخلفت لعقود طويلة عن إقرار مدونات سلوكية للمسؤولين والموظفين، والسجال المشتعل على خلفية إقرارها هو متعدد الدوافع والمحركات.
مع ذلك فحاجتنا إلى المدونة السلوكية كانت ملحة، وإصدار المدونة وإقرارها على المسؤولين والموظفين في وحدات الخدمة العامة لم يكن ترفا بكل تأكيد، فقانون الخدمة المدنية وكل القوانين ذات الصلة وحدها لا تكفي لضبط قواعد التصرف والسلوك للمسؤول والموظف، لأنها بطبيعتها أنظمة عامة لا تشرح بصورة وافية كيف يجب أن يتصرف المسؤول ويعمل الموظف العام تجاه قضايا يومية هي أساس العمل الوظيفي ، فهي تغطي الكثير من المساحات في الممارسة اليومية للوظيفة العامّة، وهو ما عالجته المدونة السلوكية التي صدرت لتنظم العمل والمسؤوليات في وحدات الخدمة العامة.
وإذا كانت دول العالم كلها تضبط سلوكيات وقيم موظفيها ومسؤوليها بمدونات سلوكية وقيم وأخلاقيات ومبادئ والتزامات، وتترجم فيها هويتها القومية أو الدينية، وتوجهاتها السياسية وقيمها الثقافية، فلماذا نستثني أنفسنا مثلا ؟ وما المانع الذي يمنعنا من ذلك؟
ومن المهم الإشارة إلى أن المدونة السلوكية التي صدرت تنطلق من التعاليم والتوجيهات القرآنية التي وردت في كتاب الله العظيم وهي بذلك لا تخص فئة بعينها وكلنا مسلمون بحمدالله، كما أن فيها تكريساً لمعان إيمانية عظيمة يتوجب حتى على غير المسؤولين والموظفين أن يلتزموها كأخلاق وقيم إيمانية عظيمة، وتلك الالتزامات القواعد السلوكية والوظيفية لا تعارض الدستور والقوانين بل تترجمها إلى عمل ووظيفة يومية، والجاهل بذلك عليه العودة إلى المدونة وما فيها من القيم والسلوكيات والالتزامات التي تؤكد ذلك، بدلا عن التغافل عنها.
وهنا يمكنني أن أصنف ردة الفعل المضادة، من حيث دوافعها ومحركاتها إلى جانبين:
الجانب الأول : النقد والاعتراض على بعض بنود المدونة أو على شكلها أو على بعض مضامينها، وهؤلاء انطلقوا من خلفيات عديدة ومتشعبة، فالبعض رأى أنها في غير وقتها، والبعض اعترض على بنودها، أو بنود معينة وردت فيها، وكل معترض انطلق من دوافع وتعاريف اختلفت كليا عن المعترض الآخر، وكلٌّ له اعتراض غير اعتراض الآخر، وهذا طبيعي لأن البشر يختلفون وستخرج من كل خمسة أشخاص بعشرين رأيا ومسألة، لكن من غير الطبيعي أن يكون المسؤول بلا التزامات وبلا أخلاقيات قانونية ملزمة، وأن تكون الوظيفة العامة بلا هوية ولا هدف ولا غايات.
الجانب الثاني: الاستهداف والشيطنة ليس للمدونة بل لكل ما يتصل بمفهوم الدولة اليمنية، والهجوم المسعور الذي أطلقته ماكينة العدوان لن تكون إلا بالوتيرة نفسها حتى لو كانت المدونة بصيغة أخرى، هذا الهجوم الذي أطلقته ماكينة العدوان ومرتزقته وأبواقه والمتناغمون معه يشير إلى الحرب الشرسة التي استهدفت الدولة ومؤسساتها منذ اليوم الأول وصولا إلى حرمان موظفيها من المرتبات، وبالتأكيد لن يبارك العدوان ومرتزقته أي خطوة أو عمل صحيح، حتى لو كانت، فَهُمْ أساسا لا يعترفون بوجود الدولة في اليمن، ولا يكترثون بالوظيفة ولا بالموظفين ولا بمعاناتهم ولا بحقوقهم ولا بالتزاماتهم.
ومن المهم أن نكون على وعي تام بما يريده العدوان وبما يسعى إليه، فإن كان بهجومه يقصد الحفاظ على حقوق الموظفين التي حفظتها وقدستها المدونة، فعليه أن يصرف رواتبهم أولاً من الثروات التي ينهبها، وما يجب أن يدركه أننا اليوم بقرار وطني مستقل لا وجود معه لأي وصاية أو إملاءات.
أما الاعتراض على القيم والأخلاقيات والتوجيهات القرآنية التي تضمنتها المدونة، فلا نظن أن الفساد الذي نخر كل شيء في الماضي قد استثنى هويتنا الإسلامية وقيمنا الدينية والثقافية، وإلا كيف صار القرآن الكريم وتعاليمه طائفية ومذهبية.
وقبل أن نُشهر مفاهيم الحرية والديمقراطية وغيرها مما اعتدنا تلقّيه دونما وعي تام أو حتى دراية بمرامي المتفوهين بها، فيجب أن نحيلها دوماً إلى الشعارات التي يعتاش عليها المرتزقة واللصوص والمأجورون في الرياض وعواصم العدوان، حريٌّ بنا قبل هذا أن نتساءل حول ما يريده هؤلاء ومشغلوهم من اليمنيين.