لماذا نحن لا نُهزم؟
فارس السخي
إن الجهاد تحت راية أهل البيت عصيٌّ لَصِبٌ، وإن أمرَهم صعب مستصعب، وإن لهم راية من تقدمها مرق، ومن تأخر عنها زهق، ومن لازمها لحق، فمن لحق بها نجى، ومن تخلف عنها هلك، تستوجب التولي والتسليم والاستجابة والصبر والانضباط، بثبوت دائم وحركة مُستمرّة لعمل الخير ودفع الشر، وتستدعي تقوى الله، وقوةً في دينٍ، وحزماً في لينٍ، وإيماناً في يقينٍ، وقولاً في عملٍ، وحرصاً في علمٍ، وتنامياً في وعيٍ، ونفاذاً في بصيرةٍ، وبراعةً في تقديرٍ، وإبداعاً في تدبيرٍ، وعظمةً في خُلقٍ.
فمن لا يملك أخلاقاً فضيلة وقيماً نبيلة حتى في أوقات ينزع فيها عدوه إلى كُـلّ دناءة ووضاعة، صار ظالماً وإن كان مظلوماً، وتبدلت تضحياته عدماً، وذهب جهاده سدىً، فَـإنَّ الغالب بالشر مغلوب، وإن الخير هو صدق القلوب، والنصر لا يُطلب بالبغي والجور. فبقدر ما يحب الإنسان الخير، يكره الشر. وبقدر ما يطلب من العدل والإنصاف، ينفر من الظلم والإجحاف. أما ذلك الذي لا يكره، فهو الذي لا يحب.
عندما بدأ التحالف السعوديّ الأمريكي عدوانه على اليمن، لم نبادر بالرد عليه تواً، ولكنا صبرنا واحتسبنا أربعين يوماً، فكان لنا بذلك عليهم حُجّـةً أمام الله والملائكة والناس أجمعين. ولم نتعجل الأمر تعجل من يخدعه هواه، ولكنا تأنينا حتى استوثقنا، وجزعنا حتى اطمأنننا، وقلبنا ظهر ذلك الأمر وبطنه، ولم نرَ لأنفسنا إلا القتال أَو الكفر بما أنزل الله. ولما لم نجد من الأمر بُدّاً، كان الكي آخر الدواء، فما كان لنا سوى دفع الشر بالشر.
وفي حربنا معهم، لم نقتل منهم من فرَّ من صولاتنا شريداً، ولم نعذب منهم من وقع في أيدينا أسيراً. ولم نجهز على جريحهم، ولم نمثل بقتيلهم. ولم نقتل شيخاً، ولا طفلاً وليداً، ولا امرأةً، ولا أعزلَ بريئاً. ولم نهتك ستراً، ولم ندخل داراً، ولم نأخذ مالاً إلا ما كان في مواقعهم العسكرية، ولم نمكر، ولم نغدر، ولم نفجر. ولهذا أيدنا الله بنصره، وأظفرنا بعدوه، وكانت لنا الغلبة عليهم رغم قلة عددنا، وبساطة إمْكَانياتنا، وتظافر الأعداء علينا، وبشاعة جرمهم المرتكب بحقنا. فحربنا حرب أخلاق ومبادئ وقيم، إما أن ننتصر بها أَو نقتل دونها.
هذا ما أمرنا الله به، وجاء في محكم كتابه، وبلغنا عنه نبيه، وتجسد لنا واقعاً في الإمام علي، ذلك المقاتل الجسور، والفارس النبيل الذي أوصى أهلَه وبنيه وهو يحتضر: (لا تَقْتُلُنَّ بِي إِلاَّ قَاتِلِي. انْظُرُوا إذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هَذِهِ، فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ، ولا تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: إِيَّاكُمْ والْمُثْلَةَ ولَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ).
إن قوله عليه السلام هذا هو المصداق العملي والتجسيد الفعلي لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّه وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّه مَعَ الْمُتَّقِينَ}.
وكان الإمام علي أَيْـضاً يوصي أصحابه في الحرب فيقول: (لا تقتلوا مدبِراً، ولا تصيبوا معوراً، ولا تجهزوا على جريحٍ…).
إن هذه الروح الكريمة التي تربت بأحضان الرسالة، وتغذت من خلق النبوة، تأبى إلا أن تزداد سمواً وطهراً ونبلاً. وهذا هو حال العظماء. ولو عُدَّ عظماء البشرية، لكان في طليعتهم علي بن أبي طالب عليه السلام. فالإسلام الذي مشى به، لم تعرفه أقدامنا إلى الآن. والأمة التي لا تعرفُ ابن أبي طالب أُمَّـةٌ سوداء. فَـإنَّ هي عرفته، وتولته، ونهجت نهجَه عرفت الحقيقة، وتسنت السناء في زمن الحقارة، وكانت أُمَّـة عظيمة والأمم دونَها ذليلة تطلب العلو بالرذيلة.