واقع الآمال السعوديّة المعقودة على الغرب: “الضغط” الدولي لا يصل إلى الميدان
صحافة
تعاظَمُ الضجيجُ الأمميُّ والدولي بشأن اليمن خلال الفترة الماضية بصورة ملفتة، كاشفاً عن قلقٍ كبيرٍ لدى الأطراف الراعية لتحالف العدوان من المتغيرات المتسارعة على الميدان والتي بات واضحًا أنها خرجت عن “سيطرتهم” بشكل كامل لمصلحة صنعاء، ولذا برزت مؤشرات عدة تؤكّـد أن الرياض وواشنطن تعولان بشكل كبير على استراتيجية “الضغوط” لتعويض الفشل العسكري، لكن هل يمتلك الأمريكيون والسعوديّون فعلاً ضغوطاً تستطيع إحداث تأثير على الأرض؟
الإجَابَة على هذا التساؤل من جانب صنعاء، واضحة وثابتة دائماً، وهي أن الخيارات العسكرية سواء ما يخص الهجمات العابرة للحدود، أَو معارك تحرير الأراضي المحتلّة، لن تتوقفَ إلا بتوقُّفِ العدوان والحصار وانسحاب القوات الأجنبية ودفع التعويضات، في إطار حَـلٍّ شاملٍ يقتضي احترام سيادة البلد، وليس “صفقة” تهدئة أَو هدنة، وبالتالي فَـإنَّ استمرار العدوان بأي شكل من الأشكال أمر لن تقبل به صنعاء تحت أي عنوان أَو أية ضغوط، وإلى جانب صوابية هذا الموقف فقد أثبتت صنعاء أَيْـضاً أنها قادرة على فرض معطياته على تحالف العدوان الذي فشلت حتى الآن كُـلّ مناوراته وضغوطاته الرامية لدفع صنعاء نحو القبول بصفقات تنطوي على الاستسلام أَو استمرار العدوان.
على الجانب الآخر، يبدو بوضوح أن الرياض بشكل أَسَاسي تعتقد بإمْكَانية ممارسة ضغوط تعوض الفشل العسكري، لكن الحديث عما تعتقده المملكة نفسها غير مجد؛ لأَنَّها نفسها تعول في هذا الجانب على أصدقائها في الغرب، وهم برغم مسارعتهم في “إرضائها” عن طريق خطوات ومواقف مثل بيان مجلس الأمن الأخير، لا يبدو أن لديهم ما يحقّق أمل السعوديّة في تغيير الواقع بالشكل الذي يضع حَدًّا لانتصارات صنعاء وتحَرّكاتها العسكرية، فضلاً عن إجبارها على الاستسلام.
خلال الفترة الأخيرة، كثّـف الإعلامُ السعوديّ إجراء لقاءات ومقابلات مع مسؤولين غربيين في إطار “استعراض” موقفهم الموحد الداعم للسعوديّة والذي “تنتفخ” به الرياض بشكل غير منطقي؛ لأَنَّ هذا الموقفَ نفسَه لا ينطوي على أية “معجزات” تُخرِجُ المملكة من ورطتها، ولا يضيفُ إلى الميزان الفعلي للمكاسب أي شيء.
على سبيل المثال، في مقابلة أجرتها صحيفة “الشرق الأوسط” السعوديّة قبل أَيَّـام مع السفير البريطاني لدى اليمن “ريتشارد أوبنهايم” أشار الأخير بوضوح إلى قرار 2216 لم يعد صالحًا كمرجعية للحل، وأن “التسوية تحتاجُ لقرار جديد”، وبغض النظر عن أن هذه الحقيقة باتت محلَّ إجماع منذ مدة، إلا أن إعادة تأكيدها هنا يبرز عدم جدوى “التعويل” السعوديّ على الدعم الغربي الآن؛ لأَنَّ المملكةَ لا زالت تتمسَّكُ بهذا القرار كمرجعية، وتظن أن المجتمع الدولي يستطيعُ أن يضغطَ على صنعاء بالشكل الكافي لإجبارها على القبول به والامتثال له، وهذا ما ظهر جليًّا في طريقة تعاطيها مع بيان مجلس الأمن الأخير.
وفي مقابلة أُخرى مع صحيفة “الشرق الأوسط”، أشار المبعوثُ السويدي لليمن “بيتر سيمنبي” إلى أن بلادَه “لا تمتلك تأثيرًا خاصًّا” على صنعاء.
وقبله قال ممثلُ السياسات الخارجية للاتّحاد الأُورُوبي، جوزيب بوريل، لقناة “العربية” السعوديّة: إن “عقوباتِ أُورُوبا قد لا تؤثر على الحوثيين”.
هناك فجوةٌ واضحةٌ وكبيرةٌ بين حجم الأمل السعوديّ المعقود على الضغوط الغربية في تغيير ميزان المكاسب الميدانية والسياسية في اليمن، وبين واقع تلك الضغوط وما يمكن أن تحدثه فعلاً من تأثيرات، والحقيقة أن أكثر من سبع سنوات من العدوان، تؤكّـد بكل ما شهدته من مجريات عسكرية وسياسية على أن المجتمع الدولي غير قادر على “كسر” صنعاء كما تريد السعوديّة.
ولذا عندما تقولُ وزيرةُ الخارجية البريطانية، ليز تروس، لصحيفة “الشرق الأوسط”: إن بريطانيا تعملُ مع المجتمع الدولي؛ مِن أجلِ “ممارسة ضغط سياسي” على صنعاء، أَو عندما “يدين” مجلس الأمن الهجمات الصاروخية والجوية على المملكة ويطالب بتنفيذ قرار 2216، أَو عندما يتحدث المسؤولون الأمريكيون عن “ضغوط” لإجبار صنعاء على وقف عملياتها العسكرية، فَـإنَّ كُـلَّ هذه التصريحات، لا تنطوي في الواقع على أي مخرج حقيقي للسعوديّة من ورطتها.
قد يكون المجتمع الدولي قادرًا على مضاعَفة الأزمة الإنسانية والمعيشية في اليمن كوسيلة ضغط، أَو حتى تكثيف الدعم العسكري المقدم للمملكة، وتوفير الغطاء اللازم لارتكاب المزيد من الجرائم، لكنه لا يستطيع أن يضمن بأي حال من الأحوال أن “استسلام” صنعاء، أَو الانتصار عليها، أَو إجبارها على القبول بما سبقت أن رفضته على الطاولة.
وبعبارة أكثر وضوحًا: عندما تتحدث صنعاء عن “خيارات أشد قسوة” لمواجهة العدوان والحصار، فَـإنَّها تفتح احتمالات مرعبة لما تستطيع أن تفعلَه وما أثبتت علميًّا أنها قادرةٌ على فعله، كنسفِ منشآت النفط السعوديّة مثلاً، وهو خيارٌ ذو تأثير مجرَّبٍ وقابل للتصعيد، لكن عندما تتحدث المملكة وأصدقاؤها عن “ضغوط” فَـإنَّ الاحتمالاتِ تتمحور كلها حول “جرائم” حرب، إما بالقصف أَو بالتجويع، وقد ثبت منذ البداية أن ذلك لا يؤثر على خيارات صنعاء العسكرية.
أما فيما يتعلق بخيار تحرير الأرض فَـإنَّ الوقائع قد أثبتت وخُصُوصاً خلال السنتين الأخيرتين، أن المجتمعَ الدولي غير قادر على التحكم بمكاسب الميدان من خلال الضغوط السياسية أَو الاقتصادية، وأنه إذَا كان هناك رهانٌ لتغيير خارطة السيطرة فيجب أن يتعلق بالجهد العسكري نفسه، وقد برهن تحالف العدوان أن جعبته العسكرية باتت خاليةً من الخيارات الفاعلة؛ وليس لأَنَّه لا يمتلك الإمْكَانات؛ بل لأَنَّ صنعاء قد استطاعت أن تتغلبَ على كُـلّ إمْكَاناته وبشكل مدهش.
والحقيقة أن الحديثَ عن ممارسة “ضغوط” على صنعاء، مع تجاهل ما تستطيع أن تمارسه صنعاء “كضغوط معاكسة” هو مُجَـرّد “استعراض” لا أكثر؛ لأَنَّ افتراض أن صنعاء ستقف مكتوفةَ اليدين أمام محاولات “الابتزاز”، افتراض خيالي لا يستند إلى أي واقع.
معركةُ مأرب والعملياتُ الصاروخية الجوية، والتي يتمحور حولها جزءٌ كبيرٌ من الحديث عن ممارسة “ضغوط” على صنعاء، تثبت اليوم وبشكل واضح أن حجم تعويل الرياض على الغرب، أكبر من حجم ما يستطيع أن يفعله الغرب لأجلها، فالتقدم صوبَ آخر معاقل المرتزِقة في مأرب مُستمرّ والقوات المسلحة تؤكّـد المضي في استكمال تحرير المحافظة، والضربات الصاروخية والجوية تنهال بشكل متواصل على العمق السعوديّ مضاعفة خسائر المملكة، وكل ذلك يحدث في وسط “استنفار” دولي وأممي غير مسبوق.
خلاصة القول: إن مسارَ “الضغوط” الدولية الذي تعوِّلُ عليه الرياضُ كَثيراً نهاياته كُلُّها مسدودةٌ، والطريق الوحيد المفتوح هو ذلك الذي ينطلقُ من إدراك حقيقة الفشل في اليمن واستحالة السيطرة عليه، والمحدّدات العملية لهذا الطريق واضحةٌ ومعلَنةٌ، وحتى إن كانت الرياضُ تسعى من خلال “التعويل” على الدعم الغربي للحفاظ على “صورتها” فقط، فَـإنَّ ذلك لن يُفلِحَ أَيْـضاً؛ لأَنَّ السبيلَ الوحيدَ للخروج بما تبقى من ماء الوجه (ولم يتبقَّ منه شيء في الحقيقة)، هو أَيْـضاً ذلك الذي أعلنت صنعاء محدّداته ومتطلباته العملية.
صحيفة المسيرة