هروب (أمريكي سعوديّ) مستمر من الواقع: صنعاء تثبّت المعادلة الوحيدة للسلام
صحافة
كما كان متوقَّعاً، جاءت نتائجُ زيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي للسعوديّة خاليةً من أي جديد في ما يخص اليمن، بل أكّـدت أن الولايات المتحدة مُصرة وبشكل وقح على مواصلة “ابتزاز” صنعاء بالمِلف الإنساني، واعتبار الغارات الجوية وتقديم الدعم العسكري للمملكة وقرصنة سفن الوقود والغذاء وتصعيد الحرب الاقتصادية “أعمالاً دفاعية”، وهو ما ردت عليه صنعاء بتجديدِ تثبيتِ الشروط والمتطلبات الرئيسية للسلام العادل والتي تم إعلانُها سابقًا أكثر من مرة، وبصورتها الكاملة التي تتضمن دفع التعويضات ومعالجة آثار العدوان، الأمر الذي يضع واشنطن والرياض مجدّدًا أمام “الاختبارات العملية” التي تحاولان الهرب منها إلى مسرح “الضجيج” والمغالطات الإعلامية.
لا جديدَ في جعبة “سوليفان”
زيارةُ المستشار الأمريكي جيك سوليفان إلى السعوديّة، والتي رافقه فيها مبعوثُ البيت الأبيض إلى اليمن، تيم ليندركينغ، كان قد تم الترويجُ لها تحت عنوان “تكثيف الجهود الدبلوماسية”، وهو العنوان الذي لا ينفك “بايدن” والمسؤولون الأمريكيون عن ترديده، وخَاصَّةً عندما يتعلق الأمر بمِلف اليمن؛ لخلق انطباع بأن هناك تغييراً “إيجابياً” في السياسة الأمريكية تجاه هذا الملف.
على الواقع، لم يعد هذا العنوانُ الدعائيُّ ينطلي على أحد، حتى داخل الولايات المتحدة نفسها، إذ بات واضحًا أن “دبلوماسيةَ” بايدن المزعومة لا تسعى لـ “إيقاف الحرب” بل للتهرُّبِ من مسؤولية استمرارها، والتخلص من الضغوط الحقوقية والتشريعية التي تراكمت على امتداد إدارتين سابقتين؛ بسَببِ الجرائم الوحشية التي ارتكبت بحق اليمنيين.
هذا ما جدّدت نتائجُ الزيارة المذكورة التأكيدَ عليه، فـ”سوليفان” وبحسب وكالة الأنباء السعوديّة، جاء ليطمئن ولي العهد السعوديّ بأن الولايات المتحدة “ملتزمة بالدفاع عن المملكة ضد التهديدات بما في ذلك الهجمات الصاروخية والجوية” وهو تأكيد صريح على دعم استمرار الحرب على كافة الأصعدة، ولا تقلل من صراحة هذا التأكيد صيغة “الدفاع” التي تستخدمها الإدارة الأمريكية لتصوير القصف الجوي على المحافظات اليمنية والحصار المفروض على الموانئ والمطارات كعمليات غير هجومية (كان العديد من أعضاء الكونغرس قد حاولوا الاستفسارَ عن الفرق بين الدعم الهجومي والدفاعي المقدم للسعوديّة، وكان الصمت الذي التزم به البيت الأبيض إجَابَة واضحة: لا يوجد فرق).
“سوليفان” وولي العهد السعوديّ اتفقا أَيْـضاً على التمسك بما تسمى “المبادرة” التي قدمتها الرياض وواشنطن قبل أشهر، والتي تقترح أن توقف صنعاء أعمالها العسكرية، مقابل أن يتم “تخفيفُ بعض القيود” المفروضة بشكل تعسفي وإجرامي على سفن الوقود والغذاء والدواء، وفتح مطار صنعاءَ بشكلٍ جزئيٍّ لتسييرِ رحلاتٍ إلى جهات مختارة، وهي المقايضة الابتزازية التي حاولت الولاياتُ المتحدة من خلالها أن تدعمَ دعايةَ “جهودها الدبلوماسية” من خلال وضع صنعاءَ بين خيارَين: إما أن تقبل بها وتقدم تنازلات عسكرية وسياسية كبيرة عجز تحالف العدوان عن الحصول عليها بالقوة خلال سبع سنوات، أَو أن ترفضها (وهو الخيار المنطقي) فتستخدم واشنطن دعاية أن “صنعاء تعرقل الحل”؛ لتبرير استمرار الحرب والحصار، وبما أن القيادة السياسية والثورية اليمنية قد أعلنت سابقًا الرفض القاطع لتلك المقايضة، فَـإنَّ الهدفَ من التمسك الأمريكي السعوديّ بها أصبح واضحًا وهو مواصلة تحميل صنعاء مسؤولية استمرار “العنف”، لحشد ضغوط دولية ضدها تدفعها نحو الخيار الأول، وقد بدا ذلك واضحًا في نتائج اجتماع “سوليفان” وولي العهد السعوديّ التي تضمنت “دعوة صنعاء للمشاركة الصادقة في المحادثات” تحت القصف والحصار!
المعادلة الوحيدة للسلام
العمود الفقري لهذه المراوغة الأمريكية السعوديّة هو افتراض مثير للسخرية يقتضي أن وصف الابتزاز بـ”السلام” وتعميمه على نطاق واسع، يمكن أن يلغي حقيقته كابتزاز، وبالتالي يمكنه أن يجبر صنعاء على التعاطي معه، لكن الأمور لا تسير بهذه الطريقة التي تتجاهل الواقع تماماً.
وصنعاء بمكاسبها ومعادلاتها السياسية والعسكرية المرتبطة تماماً وعلى نحو مدهش بالواقع، تجعل المغالطة الأمريكية السعوديّة مكشوفة تماماً، فكلما جددت الرياض وواشنطن إثارة “الضجيج” الإعلامي حول السلام، ألقت بهما صنعاء وبشكل محرج إلى الميدان العملي ومتطلباته.
في هذا السياق، جاء رد رئيس الوفد الوطني، محمد عبد السلام، أمس الأول، ليؤكّـد بقوة ووضوح على أن: “من يرغب في سلام فخطوات السلام تتمثل في وقف العدوان ورفع الحصار ومغادرة القوات الأجنبية البلاد ومعالجة آثار العدوان ودفع التعويضات، ولن يتحقّقَ سلامٌ بدون ذلك”، مُضيفاً أن: “شعبَنا اليمني هو في موقفٍ دفاعي ولم يعتدِ على أحد، وهو يطلب حقه في كامل الحرية والسيادة والاستقلال ولن يقبَلَ بأقل من حقه المشروع”.
برغم أن محللين اعتبروا “معالجة آثار العدوان والتعويضات” إضافةً جديدةً إلى متطلبات السلام، ورفعاً لسقف الشروط، إلا أنها ليست كذلك، فهي جزءٌ من الموقف الثابت لصنعاء فيما يتعلقُ بالسلام الحقيقي، والتأكيدُ عليها الآن يرسلُ رسالةً تؤكّـدُ التمسُّكَ بهذا الموقف كاملاً غير منقوص؛ باعتبَار التعويضات جزءاً رئيسياً منه وليس تفصيلاً هامشياً، وهي رسالةٌ يتناسب “حزمُها” مع درجة اللاواقعية المرتفعة التي حملتها تصريحاتُ “سوليفان” وولي العهد السعوديّ.
مع ذلك، لا يخفى أن تأكيداتِ رئيس الوفد الوطني عكست بوضوح تعاظُمَ قوة الموقف السياسي لصنعاء، بشكل يتوازى مع تعاظم قوة موقفها القتالي على الأرض، فمخرجات زيارة “سوليفان” الذي يعتبر مسؤولاً رفيعاً، لم تكن في الواقع مهمةً كَثيراً أَو مفيدةً للسعوديّة، بل جددت التأكيد على انسداد أفق “الحيل” والمغالطات، والعجز الكامل عن السيطرة على مجريات الميدان، والاستمرار بالركون على الوهم لتغيير الواقع، فيما جاء رد عبد السلام مستنداً إلى أرضية صلبة ومنطقية وملموسة، وإلى معادلات استراتيجية تم تثبيتُها بشكل يجعلُ تجاوُزَها أَو الالتفافَ عليها مستحيلاً، ومحرجاً أَيْـضاً للعدو.
وعلى الرغم من أن التعنت كان دائماً، ولا يزال، السمة الرئيسية للموقف السياسي الأمريكي تجاه اليمن، إلا أن سقف هذا التعنت قد انخفض إجبارياً وبشكل غير قابلٍ للإنكار، من “نزع السلاح”، إلى تحريم العلاقة ببعض دول الجوار، وُصُـولاً إلى وقف التقدم في مأرب ووقف الصواريخ والطائرات المسيَّرة على السعوديّة، وهذا المسار التنازلي قابله مسارٌ تصاعدي في تثبيت موقفِ صنعاء ومطالبِها المشروعة على الطاولة، وبالتالي فَـإنَّ التقييمَ العامَّ يؤكّـدُ أن “إنهاءَ العدوان والحصار وإخراج القوات الأجنبية ومعالجة آثار الحرب ودفع التعويضات” ستكون أثقلَ وزناً على الطاولة من صفقة المقايَضة والابتزاز بالمِلف الإنساني.