الأُمَّـةُ كانت متفرقةً وجاهلةً وظلاميةً أخافها في يومٍ من الأيام فيلٌ واحد
لقد كان مولدُ رَسُــوْلِ الله صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَآلَــهُ وَسَلَّـمَ في عامِ الفيل، تلك الحادثة العجيبة، وكان للحادثة بنفسها علاقةٌ بإرهاصات القُدوم المبارك لخاتم الأنبياء، قال الله تعالى بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) صدق اللهُ العلي العظيم، قَبلَ مبعَثِ الرَّسُــوْل صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَآلَــهُ وَسَلَّـمَ كان العالَمُ بكله بشتى أنحاء الأرض يعيشُ جاهليةً جهلاءَ تعاظَمَ فيها الضلالُ واشتد العمى وطغت الحيرةُ والتِّيْـــهُ واستحكمت فيها هيمنةُ القوى المستكبرة بقوتها وجبروتها، تضلُّ وتظلمُ وتضاءلت في الأرض دائرةُ النور وأطبق عليها الظلامُ ظلامُ الجهل بالحق والحقيقة وظلامُ الخُرافة وظلامُ الباطل وظلامُ الفساد وامتلأت ظُلماً وجوراً وعُـدْوَاناً، وفقدت البشرية الوعيَ بهدف وجودها بهدفِ وجودها المقدَّس ومسؤوليتها في الحياة، وأصبح الإنْسَـان تائهاً لا يعي دورَه ولا يحمِلُ من اهتمام إلا أن يأكُلَ ليعيشَ وأن يعيشَ ليأكُلَ كالأنعام السائمة، وتمكّنَ المجرمون المستكبرون المتسلطون الجائرون أن يجعلوا من الخرافة عقيدةً، ومن الانحراف والفساد سلوكاً وعادةً، ومن الجهالات والأباطيل عاداتٍ وتقاليدَ، وحرّموا حلالَ الله وأحلّوا حرامَه، وأشركوا به وبلغوا بإضلالِهم لعبادِ الله وتوحُّشهم إلى تفريغِ الإنْسَـان من عاطفته الإنْسَـانية (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ)، أوصلوهم إلى أن يباشِرَ الأبُ ذبحَ طفلِه وقتلَ مولودتِه، إماً خوفاً من الفقر أَوْ احتساباً لها منقصة، وتحوّلت كُلُّ تلك الخرافات والمفاسد والجهالات إلى معتقدات يقدّسونها ويدينون بها ويتشبثون بها أشدَّ تشبُّثٍ، وعادات يتعصّبون لها تطبّعت عليها أجيالٌ، يموت عليها جيلٌ ويحيا عليها جيلٌ آخر، وطغت على حياةِ الناس واستحكمت وتمكّنت حتى أصبحت مُسَلّماتٍ وثوابتَ مع كُلّ ما ترتب عليها ونشأ من خلالها من نتائجَ سيئةٍ في واقع الحياة من عناء وشقاء وقهر وظلم، وشتات وفرقة، وتناحُر ونزاع وبؤس وضعة، ومع حاجة المجتمع البشري إلى التغيير، إلا أنها مهمة لن تكون سهلةً تجاه واقع وصل إلى هذا الحد، وفيه قوى الطاغوت تحمي وترعى ذلك الانحراف، وتزيدُ منه، ومعالِم رسالة الله تعالى في الأنبياء والرسل السابقين انمحت معالِمُها في منتسبيها فأضاعت اليهودُ معالِمَ رسالة الله تعالى إلى موسى وأنبياء بني إسرائيل، وأضاعت النصارى ميراثَ عيسى من الهُدى والأخلاق، ولم يتبقَّ للجميع إلا طقوسٌ وشكلياتٌ مفرَّغة من كُلّ معنى، وفاقدةٌ لأي تأثير، وأصبحوا جزءاً من الواقع لا صالحين ولا مصلحين، بل منحرفون ومحرِّفون، ضالون ومضلون، فاسدون ومفسدون، وحوّلوا كُتُبَ الله إلى قراطيس يُبدونها ويخفون كثيراً منها، وحوّلوها إلى عبارات مكتوبة معطّلة عن التنفيذ، وموقفة عن الاهتداء بها والعمل بما فيها، وحرّفوها؛ سعياً منهم إلى تحويلها إلى وسائلَ للتضليل بها والافتراء على الله الكذبَ باسمها، فضلّوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل.
وفي ذروةِ استحكامِ قبضة الطاغوت وسيطرة المستكبرين تحَـرّك أصحابُ الفيل؛ بهدفِ القضاءِ على ما يعتبرونه تهديداً مستقبلياً، فالآثارُ والأخبار والمؤشرات قد عرفوا منها أن مبعَثَ النور والخلاص آتٍ بقدومِ خاتمِ الأنبياء من مكة البيت الحرام في ذلك العام، فتحَـرّكوا بجيشهم، يريدون السيطرةَ المباشرةَ ووأد المشروع الإلهي في مهده، والقضاء على الرسالة الإلهية، تَمَاماً كما فعل فرعونُ في سعيه للحيلولة دونَ المشيئة الإلهية في أمر موسى عليه السلام ففشل وخاب، ويسعون أَيْـضاً إلى هدم الكعبة بيت الله الحرام المقدّس ومَعْــلَــم الشعائر الدينية والرمز المتبقي في اجتماع كلمة العرب آنذاك على تقديسه، مع اختلافهم في كُلّ أمورهم الأخرى، وفي مقدمة جيشهم اصطحبوا فيلاً ليرعبوا به العربَ ويخيفوهم بهذا الكائن غير المألوف لديهم والحيوان الكبير، الذي رأى فيه الكثير أنه أمرٌ لا يقاوم.
عدَمُ التحَـرُّكِ بجدية لمواجهة أصحاب الفيل
ومع قداسة البيت الحرام لدى العرب التي توارثوها من عهدِ نبيّ الله إبراهيم الخليل وابنه نبي الله إسماعيل عليهما الصلاةُ والسلامُ، وارتباطهم بشعائر الحج، إلا أنهم نتيجةً للفُرقة والاختلاف والشتات الذي كانوا فيه والمفاهيم الظلامية التي سيطرت على تفكيرِهم ورُؤيتهم على الأمور والخَلَل الذي كانوا يعانون منه في كُلِّ واقعهم وفقدانهم الأملَ في الله تعالى، لم يتحَـرّكوا بجديةٍ في مواجَهةِ أصحابِ الفيل، وغلبت عليهم الهزيمةُ واليأسُ، وهربوا من المواجَهة وقالوا في الأخير: (للبيتِ رَبٌّ يحميه)، فحمى اللهُ بيتَه الحرامَ، وأنفذ مشيئتَه بقدومِ المولود المبارك مُحَمَّـد صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِـهِ وسلم، واللهُ غالبٌ على أمره، ولكن أكثرَ الناسِ لا يعلمون، أما أصحابُ الفيل فأهلكهم، وأما كيدُهم ومكرُهم فبَطُلَ وضَلَّ وانتهى ولم يتحقق لهم ما أرادوا، فمشيئةُ الله تعالى ورحمتُه بعباده أتت بالخَلاصِ وبالفَرَجِ بعد أن بلغ الضلالُ ذروتَه، واستحكمت سيطرةُ الطاغوتِ والاستكبارِ في كُلِّ أقطار الدنيا، وملأت بظلامها قلوبَ البشرية، فأعمت بصائرَهم، وبظلمها واقعهم، فأشقت حياتهم، فكان أن غيّرت الرسالة الإلهية في حركة النبي صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِـهِ وسلم بها بعد مبعثه الشريف هادياً ومعلماً ومربياً، مجاهداً وصابراً ومضحياً، غيّرت الواقعَ بكُلِّه، على الجزيرة العربية بكلها، لتمتدَّ آثارُ ذلك التغييرِ وبمستويات متفاوتة إلى أرجاءِ الدنيا بكلها، والأُمَّةُ التي كانت متفرقةً وجاهلةً وظلاميةً، وأخافها في يومٍ من الأيام فيلٌ واحدٌ في مقدمةِ جيش تغير واقعُها بعد إسْـلَامها بعد أن تنوَّرت بالنور، واستبصرت بالهدى، وزكت بالقُـرْآن وبتربية الرَّسُــوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِـهِ وسلم، فواجهت جيوش الامبراطوريات والدول الكبرى المستكبرة، ولم ترهب جيوشها التي كانت تأتي بأعداد كثيرة من الفيلة، كانوا يتوقعون أن يخافَ المسلمون مجدداً إذا شاهدوا الفيلةَ كما خافوا قبلَ إسْـلَامهم من فيل واحد، فأتوا بالكثير من الفيلة فلم تَخَف، لم يَخَفِ المسلمون فيما بعدُ، وقَوِيَتْ عليها بقوة الحق، وانتصرت بنصرِ الله، حينما تحوّلت إلى أمة حملت أعظمَ مشروعٍ وأقدس قضية، وحينما تحوّلت إلى أملٍ لكل المستضعفين في الدنيا غير مؤطرة بعنوان جُغرافي ولا بلون ولا بعِرق ولا بقومية بل بخطاب القُـرْآن لكلِّ الناس الذي يقول فيه (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) لقد استطاع الرَّسُــوْلُ صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِـهِ بحركةِ بالقُـرْآن وبما منحه اللهُ تعالى من مؤهلاتٍ عاليةٍ وكمالٍ عظيمٍ، وبتأييدِ اللهِ تعالى أن يصنعَ تغييراً مفصلياً في التأريخ، وأن يُؤسِّسَ لعهدٍ جديدٍ ختم به رسالات الله تعالى إلى الأنبياء، ومن معجزاتِ الرسالة الإلهية أن رافعتَها وحَمَلَتَها وأتباعَها وأنصارَها والمنتصرين بها هم المستضعَفون وليس المستكبرين، لم يكن انتصارُ الرسالة الإلهية مرهوناً بقوى الاستكبار، بل كانوا هم على الدوام أعداءَها والمختلفين معها؛ لأنها تُناقِضُ أطماعَهم وطغيانَهم واستعبادَهم للبشرية، بل كان المستضعفون هم الذين يؤمنون بها ويعتزون بها ويقوون بها ويتغيّر واقعُهم بها بعدَ أن يغيّروا ما بأنفسهم.
[الله أكبر / الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل / اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]
من خطابٍ السيد / عَبدُالملك بن بدر الدين الحوثي
بمناسبة المولد النبوي الشريف للعام 1438هـ: