الإمام الهادي (ع) سلطان رحمة وعدل وتضحية
العلامة / عبدالله ناصر عامر
موضوع الولاية والرئاسة العامة ومن هو الذي ينبغي أن يتولى هذا المنصب الهام موضوع غاية في الأهمية لأن حياة أمة أو شعب في مختلف جوانبها تحتاج بصورة شبه ضرورية إلى وال يرعى شئون حياة هذه الأمة ,يرعاها بحسن سياسته ورحمته وسهره على إقامة العدل بينهم ،هذا الوالي أو القائد الذي يضحي بوقته وجهده وطاقته في سبيل إسعاد أمته وشعبه ,ثم يتفرع عن هذا الوالي ولاة يرعون مختلف الجوانب الخدمية في حياة الناس ومعايشهم, ويجب أن يكون هؤلاء نسخة وانعكاسا للرئيس العام في رحمتهم وعدلهم وتضحيتهم في سبيل إسعاد أمتهم .
ففي أواخر القرن الثالث الهجري وبالتحديد عام 280هـ أصاب أهل اليمن بلد الإيمان جور الجائرين من حكام الدولة العباسية حيث أصبح في ذلك الوقت لم يبق لهذه الدولة في اليمن إلا الإسم وبعض الشكليات التي يلتزم بها من يعتزي إليهم ,فتغلب في اليمن في ذلك الحين سلاطين وملوك ظلم وقهر لا يهمهم غير فرض المكوس ونهب أموال الناس بقوة وبطش جنودهم فشاعت في اليمن الفتن والإضطرابات والإقتتال على مطامع دنيوية, وانقطعت السبل بالناس من خوف الطرق وفقدان الأمن لسالكيها ,ففزع أهل اليمن إلى رجل ذاع صيته علما وورعا وشجاعة من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو الإمام الهادي عليه السلام والذي كان يسكن قريبا من مدينة جده المصطفى صلى الله عليه وآله ,فتوجه وفد من مشائخ ووجهاء أهل اليمن إلى ذلك الإمام العظيم في مسقط رأسه في الرس وطلبوا من الإمام أن يتوجه معهم إلى بلدهم اليمن لإصلاح أحوالهم ,وأعطوه عهودهم مواثيقهم على نصرته في إقامة الحق وإماتة الباطل ورعاية أحوالهم على الوجه المرضي والطريقة المثلى فلبى الإمام الهادي طلبهم فهو الخلف الصالح للنبي صلى الله عليه وآله ,بغيته ومنيته صلاح أمة جده المصطفى وهاهو قد وجد الناصر والمعين على ذلك ومن أهل اليمن الذين نصروا جده رسول الله وجاهدوا بين يديه ورفعوا منار الإسلام فتوجه الهادي عليه السلام مع وجهاء اليمن إلى اليمن .
وحين حطت رجلاه الشريفتان أرض اليمن بعد رحلة سفر شاقة ومضنية بدأ في إرساء قواعد الحكم الرشيد والولاية العادلة؛ فأعلن عند وصوله تلك القواعد وطلب من الناس البيعة عليها وتلك القواعد واجبات وحقوق متبادلة بين الوالي ورعيته ,ألزم فيها الإمام الهادي عليه السلام نفسه أكثر مما طلب من الرعية الإلتزام به فقال عليه السلام مخاطبا أهل اليمن : أيها الناس إني أشترط لكم أربعاً على نفسي:
1- الحكم بكتاب الله وسنة نبيه .
2- والأثرة لكم على نفسي فيما جعلته بيني وبينكم أوثركم فلا أتفضل عليكم. 3- وأتقدم عليكم عند لقاء عدوي وعدوكم.
4- وأقدمكم عند العطاء قبلي.
وأشترط لنفسي عليكم اثنتين:
1- النصيحة لله سبحانه وتعالى في السر والعلانية.
2- والطاعة لأمري على كل حالاتكم ما أطعت الله، فإن خالفت فلا طاعة لي عليكم، وإن ملت وعدلت عن كتاب الله وسنة نبيه فلا حجة لي عليكم، فهذه هي سبيلي (أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني).
ثم شرع عليه السلام في ممارسة هذه القواعد في واقع حكمه وفي تعامله مع رعاياه وهنا في هذه الأسطر نستعرض ثلاثة جوانب هامة من حياة هذا الوالي العادل الإمام الهادي رضوان الله عليه مع رعيته وهي جوانب أحوج ما تكون الرعية إليها ـ الرحمة ـ العدل ـ التضحية
1ـ رحمته (ع) بالأمة :
لم تكن الولاية عند الإمام الهادي عليه السلام علوا في الأرض ولا استكبارا ولا تطاولا على العباد ولا هيبة طاغوتية , وإنما كانت الولاية لدى الهادي عليه السلام رحمة وشفقة بالرعية وحرصا على نجاتهم عند ربهم واجتهادا في فوزهم وفلاحهم بجنة عرضها السموات والأرض , فكان عليه السلام لا يقاتل قوماً إلا بعد دعوتهم وإقامة الحجة عليهم وإرسال رسله إليهم بأن يدخلوا فيما دخل فيه المسلمون ويبين لهم ما هم فيه من الباطل، وأن يحقنوا الدماء، ويرجعوا إلى الحق ، ويناظرهم على ذلك وقتا، فإن أبوا بعد إبانة الحق لهم قاتلهم حتى يحكم الله بينه وبينهم.
وكان كثير الصفح والعفو ممن يتكرر منهم النكث والغدر، لأنه عليه السلام كان يريد هداية الناس فهو يتلطف بهم ويتحنن عليهم، وكان يمنع أصحابه أن يتبعوا مدبراً، أو يقضوا على جريح، أو يقتلوا وليداً أو امرأة أو شيخاً لا يطيق القتال، أو يقطعوا شجراً، أو يمثلوا بآدمي أو بهيمة.
ولا شك أن الرعية لا سيما الضعفاء منهم خصوصا أوقات الشدة والعسر يريدون أن يرو مظاهر الرحمة من إمامهم وواليهم ,فكان للهادي عليه السلام وقتا في دوامه اليومي يشرف فيه بنفسه على إطعام الفقراء والمساكين ويحضر وجبتهم ليطلع بنفسه على طعامهم وأحوالهم, بل ويطعمهم من لذيذ الطعام الموجود في بيت مال المسلمين؛ بل كان يشارك في صناعة الطعام لهم فيفت بيده الشريفتين الطعام للأيتام، ويثرده بالسمن, وكان يحرص ويتحرى في صناعة ملابس الفقراء ,وكان أمر بأن يُصنع لهم كسوة للصيف وأخرى للشتاء وكان يقول (ع) : إن لكل وقت كسوة، وإن لكل زمان لباساً , حتى أنه عليه السلام كان يأمر رجلا من أعوانه ينادي في المسجد أين الفقراء، أين المساكين أين أبناء السبيل، أين من له حاجة، هل من سائل فيعطى أو من طالب حاجة فتقضى , وكان عليه السلام يزور المرضى وأهل الإعاقة ويتفقد أحوالهم بنفسه ,وإذا سمع شاكيا خارج منزله أمر بادخاله على الفور ليسمع شكواه ثم يأمر في الحال أحد معاونيه وقضاته بالإنطلاق مع الشاكي لحل قضيته وإنصافه , فما كان يحتجب احتجاب الولاة في عصرنا عن الرعية بحيث لا يكاد يرى طيلة عمره إلا في التلفاز ,فهو محاط طيلة أيامه بحاشيته ومعاونيه المقربين منه لا يصل إليه أحد إلا من أرادت الحاشية إيصاله ,ولا يصل إليه من أخبار الرعية إلا ما وافق رغبة حاشيته ومعاونيه .
2ـ عدله (ع) في الرعية :
العدل في الرعية على اختلاف طبقاتهم من لب أهداف الولاية والرئاسة العامة ,وهو الهم الأكبر الذي ينبغي أن يعطيه الإمام والرئيس جل وقته وعظيم اهتمامه ,ما يعني أن هناك مظالم كبيرة لا يمكن أن تزول إلا بميزان العدل والقسط الذي ينبغي أن يرعاه الإمام بنفسه ؛لأن من المعلوم أن المظالم الكبيرة هي التي تحصل من الأقوياء وأهل النفوذ على الضعفاء والبسطاء من الناس , ومما لا شك فيه أن أهل النفوذ في العادة لهم أساليبهم في التأثير على مسؤلي السلطة بمختلف طبقاتهم ولن يكون مفزع الضعيف إلا إلى الوالي الأعظم والرئيس العام ؛لأنه هو صاحب الكلمة الفصل واليد لعليا والسلطة التي ليس فوقها قوة غير قوة الله تعالى ,وهذه المسئولية لا يمكن أن يقوم بها أحد نيابة عنه , أما إذا كان هذا الظلم يمارسه المسؤولون الذين هم تحت ولاية الرئيس العام وبالأخص في المراكز العليا فمن باب أولى أن وجوب إزالتها على سبيل الحتم متعلق بصاحب الولاية العليا والرئيس العام أو الإمام أو الملك أو السلطان لا يهم إختلاف التسمية ؛فالعبرة بالمعنى والمسمى, وهو من في يده الولاية العليا في الأمر والنهي .
وقد شاعت في هذا العصر عادات سيئة وظالمة اعتاد عليها سلاطين الجور والظلم وجعلوها كالقانون, وهي أن الظلم إذا وقع من أحد مسئولي السلطة على أحد من سائر رعايا الدولة أو بسطاءهم ,وجاء يشكوه إلى رئيسه إن استطاع الوصول إليه فلن يتم مواجهته بالشاكي أبدا ,بزعم أن ذلك يخل بهيبة مسئولي الدولة وهذه من العادات الظالمة التي كرسها الجبابرة والطغاة .
وما كان أئمة وسلاطين العدل يقيمون حسابا لمسئول الدولة إذا كان مشكواً به في مظلمة ظلمها بل كانوا يوقفونهم ويواجهون بينهم وبين من شكى بهم مثلهم مثل سائر الناس من رعايا الدولة , وقد كان الهادي عليه السلام شديدا في هذا الجانب فكان يقول عليه السلام: (القوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه )
وحين بلغه أن شاربا للخمر شرب في عسكره عزم على إقامة الحد عليه فأراد بعض النافذين من قواد عسكره أن يمنع من إقامة الحد على هذا الشارب كونه من أسرة ذات شرف فأصر الهادي على إقامة الحد وهدد بأن يترك الولاية إذا لم يجد المعين من الجيش على إقامة الحد ,وقد كان الإمام بالمقاييس الدنيوية أحوج ما يكون في ذلك الوقت إلى أن يغض الطرف عن تنفيذ الحكم ؛بل كان عليه السلام يقول والله لا أكون كالشمعة تضيئ لغيرها وتحرق نفسها , وكان يقول عليه السلام (إن هي إلا سيرة علي وإلا فالنار).
نعم كيف يغض الهادي عن حد من حدود الله وقدوته جده علي بن أبي طالب عليه السلام ,ففي خلافة عثمان شرب الوليد بن عقبة الخمر وكان واليا على العراق وقامت عليه الشهادة العادلة بأنه شربها فأراد أن يفلت من العقاب لقربه من الخليفة عثمان ,فأصر الإمام علي (ع) على إقامة الحد على الوليد وأقامه عليه بنفسه.
وليس غريبا هذه المواقف على هؤلاء الأئمة في صلابتهم في ذات الله ؛لأن قدوة الجميع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي سرقت في عهده صلوات الله عليه امرأة قرشية من بني مخزوم ,فجاء النافذون إلى أسامة بن زيد يطلبون منه شفاعته عند رسول الله في إسقاط الحد عن هذه المرأة, فكلم أسامة رسول الله صلى الله عليه وآله في شأن هذه المرأة، فَقَالَ رسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وآله وسلم – : (( أتَشْفَعُ في حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ تَعَالَى ؟! )) ثُمَّ قَامَ مغضبا فاختطب ، ثُمَّ قَالَ : (( إنَّمَا أهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيِهمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ ، أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ ، وَايْمُ اللهِ لَوْ أنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا )).
إذا فالمحرمات المعلوم حرمتها في دين الإسلام وكذا المفاسد والظلامات المعلومة الواضحة لا ينبغي ولا يجوز لولاة أمر المسلمين السكوت عنها وإقرارها, أو تأجيل العقوبة عليها أو تأخير إزالتها , بأي عذر من أوضاع غير مناسبة ,أو بدعوى الإنعكاسات المتوهمة من إقامة الحق وإزالة المنكر, فهذا النبي صلى الله عليه وآله طيلة عشر سنوات من تاريخ الإسلام في المدينة بعد الهجرة ما قر له قرار ولا كف الأعداء عن حربه ,فما حجزه ذلك عن إقامة الحق في أوساط أتباعه من المسلمين, وإزالة الظلامات ,وهل جاء الإسلام إلا من أجل القيام بذلك ,وهكذا كان الإمام علي ,لم يبقِ كبار المفسدين لحظة واحدة عند توليه الأمر ,رغم نصائح بعض أصحابه من الإبقاء عليهم فترة حتى يستقيم له الأمر , فأجاب عليهم عليه السلام قائلا : ( لم يكن الله ليراني أتخذ المضلين عضدا ) وهكذا كان إمامنا الهادي عليه السلام , فقد كان خروجه إلى اليمن في المرة الأولى في عام 280هـ فقضى معهم وقتا قصيرا فلما امتنع بعض جيشه من تنفيذ ما أمر الله, ولم يجد من يعينه على القيام بالحق ,تركهم وعاد إلى موطنه في الحجاز في الرس ,حتى عاد إليه أهل اليمن مرة ثانية عام 284هـ وأعطوه العهود والمواثيق على النصرة في الحق والقيام بما أوجب الله فخرج معهم مرة أخرى .
تضحية الإمام الهادي عليه السلام وتفانيه :
لم تكن الولاية عند الهادي عليه السلام غنما ولا رغد عيش ولا قصورا ولا خدما ولا حشما ولا عقارات وبساتين ومزارع ولا مراكب ولا خيلاء ,وإنما كانت تضحية خالصة وسهر ونصب في سبيل صلاح شئون الأمة , فقد كان عليه السلام يقول: (وددت أن الله أصلح هذه الأمة وأني جعت يوماً وشبعت يوماً).
ولذلك قطع الإمام على نفسه أمرا عند رعيته في الوهلة الأولى, حيث قال: والأثرة لكم على نفسي فيما جعلته بيني وبينكم أوثركم فلا أتفضل عليكم.
ففي حياته المعيشية كان عليه السلام يعيش حياة الفقراء وهو إمام المسلمين وفي يده بيت مال المسلمين ,وباستطاعته أن يصطفي لنفسه منه ما يشاء ؛بل من حقه أن يأخذ منه حاجته ؛لكن الهادي لم يكن يجيز لنفسه أن يُطعم نفسه وأهله شيئا من بيت المال ,بل ولا حتى خيله ودوابه الخاصة به ,يروى أنه خادمه ذات مرة أطعم خيل الإمام من الأعلاف الخاصة ببيت المال ,فبلغ الهادي ذلك فزجر الخادم وتهدده وأمره أن لا يعود إلى ذلك وأمره بتعويض بيت المال, ومثل ذلك فعل بخادمه حين أسرج سراجا في بيت الإمام كان زيته من بيت المال.
وقد كان عليه السلاك قمة في التضحية في سبيل الله في مواجهة الأعداء ,كان كما قال عليه السلام (وأتقدم عليكم عند لقاء عدوي وعدوكم ) , فكان عليه السلام يباشر المعركة بنفسه مع العدو ويتقدم الصفوف ويتعرض للحتوف ؛بل ذات مرة خاف أصحابه كثرة جيش العدو , وشعر منهم الإمام بضعف فقال عليه السلام مشجعا : ما يجزعكم من عدوكم وأنتم ألفا رجل، فقالوا: إنما نحن ألف، فقال (ع): أنتم ألف، وأنا أقوم مقام ألف، وأكفي كفايتهم.
وقد روي أنه عليه السلام من فرط تضحيته وزهده أنه عليه السلام ما أخذ لنفسه وأسرته شيئا من مال أهل اليمن ,وأنه كان يقتصر في قوته وطعامه على ما كان يأتيه من غلة ماله في الحجاز.
وهاهو اليمن بلد الإمام الهادي عليه السلام وموطن عدله يتعرض لأقسى أنواع الظلم والعدوان والإجرام من أئمة الكفر الأمريكان وأذنابهم من آل سعود وأحلافهم من منافقي العرب ,وقد ضحى اليمن في سبيل مواجهة هذا العدوان بخيرة رجاله من علماء ومفكرين وشباب مجاهدين, إضافة إلى الضحايا من النساء والأطفال, وتدمير بنيته ومرافقه ومصالحه العامة, وبعد أن تخلص في الداخل من كبار المستبدين والظالمين ,فهذا البلد بعد هذه التضحيات الجسام يستحق أن يلي أمره من الولاة والمسئولين من يتخذ من الهادي قدوة وأسوة , فيعمل على سد خلة المنكوبين في هذا البلد ويخفف عنهم ما هم فيه من الشدة والضيق , ويرعي شئونهم دون كلل ولا ملل ,ويذوق أبناؤه العدل والقسط والإنصاف الذين حرموا منه عقودا من الزمن ,وأن يزاح من على كاهلهم أذية من بقي من صغار الظلمة والمفسدين ,ليخف عنهم ثقل محنة وشدة العدوان ,لينعموا بعيش كريم , في عزة وشموخ ,نسأل الله لهذا البلد الفرج العاجل والنصر القريب بحوله تعالى وقوته..