الثورات وقضايا المجتمع المعقَّــدة
عبدالرحمن مراد
مشكلتُنا اليومَ في مجتمعاتنا العربية أننا نرى الوصولَ إلى السلطة هو الغايةَ، وحين نصلُ إلى السلطة لا نفكِّرُ في مشروعِ بناء الدولة؛ لذلك وقعنا في عُمق الأزمات المعقَّدة، ولم نستطعْ حَـلَّ قضايا حقيقية ومعقَّدة ومتكاملة ومرتبطة ببعضها مثل فكرة الاستقلال، وفكرة تطوير المجتمع، وتحديث قانون حركة التغيير في الطبيعة والمجتمع.
فلا يمكنُ اختزالُ حركة الثقافة في المجتمعات إلى “نمطية مماثلة”؛ كونها ليست جامدةً أَو ميكانيكية، وبالتالي فالتيار النظري والمنهجي الذي يعتمد مقاربةً ثقافيةً دينامية، ينظر إلى الفرد بوصفه فاعلًا اجتماعيًّا، يؤثر ويتأثر، وينفعل ويتفاعل، في بيئة اجتماعية وثقافية محدّدة، لتصبحَ التشكيلاتُ الاجتماعية، كخيارات الولاء والانتماء، معطًى يشاركُ الأفرادُ في تكوينه.
ومع هذا التصور الديناميكي للثقافة، تكون الهُــوِيَّةُ بحد ذاتها كجدلٍ إنساني واجتماعي، وتكون في ضوء هذه المقاربة صيرورةً تكوّن نسقًا ذا معنى عند الفرد الذي يتفاعل مع آخرين، بالوقت نفسه الذي يتفاعل فيه مع النسق الرمزي بشقيه الموروث والسائد، حَيثُ يتطورون معًا.
ووفق تحقّق الهُــوِيَّة كصيرورة جدلية، بالمعنى التكاملي للأضداد، فهي تجيزُ بذلك بروز الفروق الفردية، ومطابقة الفرد مع الجماعة التي ينتمي إليها، وفي ضوء هذه المقاربة فقط، يمكن فهمُ كيف يصبح الفرد عاملًا في بناء ثقافته، وفي بناء هُــوِيَّته الذاتية، وكيف يكوّن هؤلاء الأفرادُ أنظمةً ثقافيةً جماعيةً تتخطاهم كأفراد.
ولذلك نقول إنه لا يجوز تحليل الوعي المجتمعي، من خلال مواقعَ طبقية أَو أيديولوجية واحدة؛ لأَنَّه سيكوّن قراءة منحازة، فنحن نخطئ إذَا استنتجنا أن الأفكار التي تحَرّك الفرد موجودة في الفرد وحده، فالتفكير يقوم به الناس في جماعات معينة، وضمن سياقات كانت قد طورتها لنفسها كأُسلُـوب خاص في التفكير، وهو ما يمكن اعتباره تشكلًا لـ “هُــوِيَّة ثقافية” وبعض المفكرين يرى أن الناس يعيشون في جماعات لا يمسون فيها كأفراد منفصلين، بل يتصرفون مع أَو ضد بعضهم، ضمن جماعات متنوعة التنظيم.
فالتاريخ العربي يختلف عن غيره؛ لأَنَّه يخضعُ لمنطقٍ مختلفٍ ومتغاير عما سواه؛ ولذلك نقول باستحالة نقل التجارب الغربية أَو غيرها، فالتاريخ لا يستورَدُ كما نستورد السلع، والوعيُ بضرورة الإصلاح لا يعني بالضرورة الرجوعَ إلى صدر الإسلام، كما تذهب بعض الفرق، فذلك مستحيل، وفي المقابل لا يعني نقل تجارب الغرب فذلك مستحيل أَيْـضاً؛ باعتبَار الحداثة ليست تحديثاً ولكنها نسق فكري ثقافي حضاري تقدمي تقدم عليه أُمَّـة أَو جماعة لإنجازه بخطاب وتقنيات ومعطيات قادرة على التفاعل وفرض طابعها الخاص التي تتسم به المرحلة أَو يتسم به المستوى الحضاري الحديث.
فالحياة في تطور مُستمرّ والجمود هلاك وتحلل وتأسُّنٌ، وهو حالة غير لائقة بالتمدن البشري في كُـلّ مراحل التاريخ، وفي المقابل الوقوفُ عند نقاط مضيئة في الماضي لا يعني تطوراً وثورةً بل يعني الاستسلام والهزيمة لشروط الواقع، وَأَيْـضاً فهماً قاصراً للحدث وتموجاته وإرهاصاته، فقدرة أي حدث تقاس من خلال الأثر الذي تركه في البناءات وليس من خلال الموقف الوجداني والانفعالي منه.
وكل حركة ثورية حقيقية تطمحُ إلى تحوُّلٍ تاريخي عميق يجعل منها مركزاً مهماً في حركة التاريخ ويمكنها مع غيرها من صنع القرار والمبادرة والإسهام في الحضارة الكونية كنِدٍّ وليس كتابع، وهذا ما كانت عليه حركات التحرّر في القرن الماضي قبل أن تصاب بالثبات والجمود وقبل أن تتعرضَ للمؤامرات والاستهداف كالناصرية مثلاً وهي تجربة يمكن الاستفادة من تفاعلها مع حركة التاريخ في زمنها ومثل ذلك من تمام الحكمة والعقل، إذ لكل تجربة مراكز قوة ومراكز ضعف وقراءة التجارب تجعلنا أكثر تمكّنا من التحكم في مقاليد الثورة والمستقبل.
ونحن في اليمن في متواليات احتفالية برموز ثوريين من آل البيت، بدأنا بثورة الإمَـام الحسين، واليوم نحتفي بثورة الإمَـام زيد، وهي محطاتٌ نأملُ أن تصنعَ في إرادتنا طاقاتٍ تطمحُ إلى تحول تاريخي عميق يجعل من اليمن مركَزاً مهماً في حركة التاريخ، فالثورة حركةٌ ديناميكيةٌ ومتجددة ثقافيًّا واجتماعيًّا وليس نمطيةً ثابتةً؛ ولذلك فالتجدد سمةُ ثورة وصناعةٌ حقيقية لواقع يتسمُ بالثورية ويتجدّدُ ويحاولُ أن يفُضَّ إشكالات قضايا المجتمع المعقَّدة.