تراجيديا الهروب الأمريكي من مطار كابل 2021م
د. عبدالعزيز بن حبتور*
عاشت أفغانستان قبل عشرين عاماً تقريبًا ليالي وأيام مُفزعة؛ بسَببِ قرار غزوها من قبل جيش الولايات المتحدة الأمريكية وحِلف الناتو وسط تهليل وتكبير من قِبل مُعظم الأوساط الشعبيّة والسياسية والاجتماعية في المجتمع الأمريكي، وبالذات من أوسطها الشعبيّة (اليمينية العُنصرية) في المجتمع الأمريكي.
وكان قرار الحرب العُدوانية قد اتَّخذه يوم ذاك الرئيس الأسبق/ جورج بوش الولد أَو الابن، تحت شعار الانتقام من (إرهابيي تنظيم القاعدة) الذين حُمِّلوا مسؤولية تفجير برجي التجارة العالمية في نيويورك بتاريخ مشؤوم في 11/9/2001م.
وحينما قرّرت أمريكا الغزو وتبعها حُلفائها الغربيين الواحد تلو الآخر من حِلف الناتو طواعيةً أَو بالإكراه، وتقاطروا جميعاً نحو أفغانستان هذه الأرض المُستضعفة، يكيلون عليها أطناناً من حِمم صواريخ أحدث التكنولوجيا العسكرية المُنتجة في مصانعهم العسكرية العملاقة، وهي مناسبة جيده لتلك الصناعات الغربية الليبرالية أن تختبر ما يسموه (الهايتكنولوجي) الأجود والأحدث في صناعاتهم العسكرية، ولم تمضِ سِوى أَيَّـام وأسابيع حتى تمَّ الاستيلاء على كامل التراب الأفغاني.
يتذكر الرأي العام العالمي سيلَ الحملة الإعلامية الشرسة من جميع أبواق إعلام البلدان الغربية، بلدان اقتصاد السوق، وهو مصطلح لتحسين صورة المجتمع الرأسمالي غير الإنساني، ومعها أتباعها وعبيدها المنتشرون حول العالم في تبرير هذا الغزو؛ باعتبَاره انتصاراً ساحقاً للحرية والعدالة الإنسانية بِرُمَّتها، وللمرأة تحديداً، مضافاً إليها قِيم الطفولة البريئة، وهللت لها جميع الأبواق النتنة من حول العالم المنافق.
هذه هي الرسالة الإعلامية التي بعثها الجندي الأمريكي من فوهة بندقيته القاتلة، ووجهها الجندي الخبير الجالس خلف جهاز الحاسوب وهو يعطي أوامره بالقصف لطائرات المسيرة (الدرونز (Drones من على بُعد آلاف الكيلو مترات بين المُرسل وبين جهاز التنفيذ من أجهزة (الهاي تك).
الشعب الأفغاني سجَّل في تاريخه الطويل هزيمة أقوى العروش، وأعظم الامبراطوريات في تاريخه كالبريطانيين والسوفييت (الروس)، واليوم جاء الدور لهزيمة الأمريكان بهزيمةٍ مُرَّة، وسلاحهم الإيمان والعزم والتضاريس، ومن امتلك تلك المقومات ضمن الحرية الأبدية لمجتمعه وشعبيه ووطنه.
حينما يقارن الفرد منَّا حجم وقوة وجبروت تلك الامبراطوريات مع إمْكَانات وقدرات الشعب الأفغاني سيجد الفرق شاسع، هو الفرق بين المعقول واللامعقول، والفرق بين الثرى والثريا، أي لا يقبل عقل راشد أن يقارن بين طرفَي معادلة متناقضة إلى درجة الفرق فيما ذُكر سالفاً.
يُقال: إن تضاريس أفغانستان تختزن آلاف الأطنان من المعادن الثمينة، مثل الليثيوم واليورانيوم والذهب والفضة وغيرها من أصناف المعادن الثمينة، والتي تدخل في عدد من الصناعات المستقبلية المتطورة، هذه الثروات جعلت لُعاب تلك الإمبراطوريات سالفة الذكر تسيلُ وتتساقطُ على سفوح جبال تورا بورا، وبانشير، وغيرها من التضاريس الوعرة الصُلبة لهذا البلد المستضعف.
تحتل أفغانستان موقعاً متميزاً لتضاريس الجغرافية المغلقة الاستراتيجية التي تجمع الحدود السياسية لعددٍ من الدول هي باكستان، الصين، أوزباكستان، وطاجيكستان، وتركمانستان وإيران، وبذلك هي جغرافيا رابطة فاصلة ومواصلة بين بلدان المنطقة متناقضة المصالح والتوجّـهات، وهذه الميزة هي أحد أسباب تدافع البلدان الطامعة لاحتلال هذا البلد الفقير.
لأَنَّ تضاريس وجغرافية هذا البلد يربط جغرافية بلدان عظمى أَو كبرى لها طابع التنافس العسكري والسياسي والاقتصادي، وَتتموضع حول تضاريس وجغرافية البلد، جعلها تحتل تلك الميزة التي كانت وما زالت محل أطماع تلك الإمبراطوريات الكبرى، لنضرب مثالاً واحداً في هذا الشأن، فجمهورية الصين الشعبيّة المحاذية لها، لديها مشروعها الاستراتيجي المسمى بـ (الحزام والطريق) لتمرير طريق الحرير عبرها إلى إيران وتركيا ومن ثم إلى أُورُوبا، وطريقها الثاني عبرها إلى إيران والعراق وسوريا، ومن ثم عبر البحر الأبيض المتوسط، وطريقها الثالث عبر أفغانستان وإيران والعراق والكويت والسعوديّة والإمارات وسلطنة عمان واليمن إلى ضفاف البحر الأحمر وبحر العرب، وربما عبر باب المندب بعد بناء وتشييد (حُلم) جسر النور الرابط بين اليمن وجيبوتي، وبالتالي الانطلاق إلى قلب إفريقيا، من هُنا جاءت أهميّة جغرافية هذا البلد المنسي الفقير المسمى أفغانستان.
مُنذ قديم الزمان وأفغانستان الأرض، والبلدان المجاورة لها، تثير شهية القادة الطامحين للهيمنة والسيطرة على خيرات تلك الجغرافيا تحديداً، لِتُلهب مخيلة الفلاسفة والمخطّطين لطموح السيطرة على هذا الجزء من العالم، لقد شكَّلت أفغانستان جزءًا من الطريق الوعر للوصول إلى أرض الهند والسند، للتمتع بلون الزعفران الذهبي، والتطيب بعطور رائحة البخور وَالعود الأصلي، والاستمتاع الروحي برائحة اللُبان في المعابد والكهوف ودور العبادات، كُـلّ ذلك أشعل مخيلة الفلاسفة ورجال الدين والقادة العسكريين من القادة الرومان، ولم يكن جنكيز خان، وهولاكو، وجحافل التتار، بعيدًا عن هذا الطموح، زِد على ذلك ما سمعوه عن الحضارة العربية – الإسلامية في عصر الدولة العباسية، هؤلاء الأقوام عبروا فوق تلك التضاريس إلى أن استباحوا بغداد الحضارة، وحوّلوها إلى مأساة وانتكاسة.
الغريب في تفسير كُـلّ تلك الظواهر، فَـإنَّ البشر لا يتعلمون ولا يتعظون من دروس ماضي غيرهم، تجدهم يكرّرون تلك الأخطاء بحذافيرها، فجميع الغُزاة العابرون الذين داسوا تضاريس هذا البلد ذهاباً وإياباً قد تجرَّعوا من ذات كأس الهزيمة، واكتووا من سِياط لهب خزي الانكسار، وتشابهوا جميعاً في جرجرة أذيال الهزيمة النكراء، ومع ذلك لن يتعلموا!!!.
يتردّد على أسماع العالم كله وعبر وسائل الإعلام الغربية في جوقة إعلامية شبه موحدة بأنَّ الحُكم الجديد لطالبان عليه أن يلتزم حينما يود أن يُؤسس لحُكم أفغانستان الجديدة ويحُكم بمفرده، الالتزام بالمعايير الدولية في الحُكم وأبرزها:
1) الالتزام بحقوق الإنسان كاملاً وغير منقوصة.
2) الالتزام بعدم تِكرار احتضانهم للمنظمات الإرهابية (كالقاعدة وداعش) وأية منظمة إرهابية أُخرى.
3) الالتزام بحقوق المرأة في التعليم والعمل والمشاركة في الحكم.
4) الالتزام بإشراك الأطياف السياسية في الحكم. بالمناسبة الدُول المنهزمة والهاربة من أفغانستان هي من تهذي إعلامياً وتضع الشروط على الدولة الوليدة المنتصرة والتي تُعنون دولتها القادمة باسم (الإمارة الإسلامية الأفغانية)، تصوروا كيف سيكون شروط تلك الدول لو أنها غادرت كابول وهي منتصرة!!!.
هُنا نود أن نعطيَ إشاراتٍ عامةً فحسب في كيفية التعامل مع كذب وتزييف السياسات الأمريكية وحلفائها وتوابعها على مستوى العالم أجمع طيلة الزمن بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى يومنا هذا:
أولاً: التعامل مع النظام الاشتراكي في جمهورية كوبا الاشتراكية، مُنذ أن تأسس نظامها السياسي في الخمسينيات من القرن العشرين وجميع الدُول الغربية تقريبًا لم تعترف بها، وقامت بحصارها حصاراً اقتصاديًّا وسياسيًّا وثقافيًّا مُنذ أن تأسست وحتى يومنا هذا، ولا يهم الغرب الرأسمالي ولا منظماته الإنسانية أية متاعب يتعرض لها الشعب الكوبي جرَّاء ذلك الغطرسة الأمريكية وتوابعها، والأمثلة هنا عديده.
ثانياً: التعامل مع جمهورية إيران الإسلامية، مُنذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979م بقيادة الإمام آية الله الخميني رحمة الله عليه، والولايات المتحدة الأمريكية تحديداً تحاصر إيران شعباً وحكومةً من جميع الاتّجاهات، وذريعتُها في ذلك أنها دولة غير ديمقراطية، وتُهدّد مصالح الدُول الغربية وتوابعها، إيران التي قطعت علاقتها مع الكيان الإسرائيلي الصهيوني الذي اغتصب أرض فلسطين وخرج من دائرة التبعية للمحور الأمريكي، وحتى يومنا هذا والنظام الليبرالي العالمي ينصُب العَداء المميت لجمهورية إيران الإسلامية.
ثالثاً: في شهر سبتمبر من العام 1973م، حدث انقلاب عسكري دموي في أمريكا الجنوبية قام به الجنرال/ إغستو بيونشيت، وأخذ السُلطة بقوة سلاح الجيش من الرئيس التشيلي/ سلفادور اليندي، المنتخب ديمقراطياً، وتمَّ إعدامُه علنًا، وقُتل في هذه المعارك شاعر تشيلي العظيم/ بابلو نيرودا، الذي قاتل إلى جانب الرئيس الشرعي حتى أستشهد وتحول إلى رمز عظيم للشباب اليساري الحُر في أمريكا اللاتينية كلها، وبعد واقعة الانقلاب الدموي اعترفت الولايات المتحدة الأمريكية واتباعها من دُول حِلف شمال الأطلسي بهذا الكيان السياسي العسكري الوحشي.
رابعاً: معظم دُول مجلس التعاون الخليجي في المنطقة ليس بها نص يحترم حقوق الإنسان ولا يحترم العمال المغتربين الأجانب فيها، وأحكام الإعدام فيها بحُجج سياسية وطائفية، مثال إعدام الشيخ الشيعي/ نمر باقر النمر في منطقة الاحساء في السعوديّة، وأحكام الإعدامات الطائفية في البحرين، والتعامل مع المعارضة بطرق وحشية، كحادثة قتل وتقطيع الصحفي/ جمال خاشُقجي، وغيرها، ومع ذلك تجد هذه الدول وإجراءاتها قبولاً كاملاً لدى الدُول الغربية الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا هو الكذب والنفاق في أعلى مراحله.
خامساً: أعظم درجات النفاق الدولي والكذب الغربي البواح هو في تأسيس كيَّان يهودي إسرائيلي صهيوني على أرض فلسطين العربية منذ نوفمبر 1947م، وبموجب قرار التقسيم تمَّ طرد وتهجير الشعب الفلسطيني من الأراضي العربية الفلسطينية، وما زالت مأساة القتل والتشريد والاستيطان وبناء المغتصبات الصهيونية مُستمرّاً حتى هذه اللحظة، وبدعم حقيقي من أمريكا وتوابعها.
سادساً: الدُّول الغربية الاستعمارية بقيادة أمريكا وعلى امتداد تاريخها السيئ، كانت نصيرة وداعمة لفكرة الحروب الاحتلالية الاستعمارية على طول وعرض الكرة الأرضية، والرأي العام العالمي يتذكر لدُول حِلف شمال الأطلسي (الناتو) دعمها العلني لدُول الفصل العُنصري في العالم أجمع، مثال على ذلك جنوب أفريقيا ودولة روديسيا العُنصرية، والكيان الصهيوني اليهودي العُنصري، كما أنها هي من عززت سياسة النظام العبودي والتمييز العنصري للإنسان الأُورُوبي الأبيض ضدَّ بقية الأعراق الإنسانية الأُخرى، إذَا هم وحدهم المسؤول عن الجرائم المُرتكبة ضدَّ الإنسانية جمعاء، وليس أحد سواهم.
سابعاً: بدأ العالم ينسى حرب العُدوان السعوديّ – الإماراتي – الأمريكي على اليمن والتي بدأت في 26 مارس 2015م، وبدعم عسكري وسياسي ودبلوماسي من الدُول الغربية الرأسمالية؛ لأَنَّ حكومات الولايات المتحدة الأمريكية وتوابعها من الدُول الغربية وتوابع توابعها لها مصلحة مباشرة في تزويد هذه الحرب بالأسلحة والذخائر وجميع مستلزمات استمرار العدوان.
الخلاصة: لكل حرب مهما صغرت أَو كبرت خلاصاتها ونتائجها، ونتيجة الحرب العالمية الثانية هو بروز النظام الليبرالي الغربي لإدارة العالم والهيمنة عليه، ولذلك صُمِّم النظام السياسي الليبرالي ليسود على كرتنا الأرضية في هذه الحقبة من الزمان، وصُمِّم أدوات حمايته دوليًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا وثقافيًّا.
إذن لا غرابة فيما شاهدناه من هزيمةٍ نكراء لمشروعهم في مطار كابل الدولي، ولكن مُنظِّريهم وخُبراء استراتيجياتهم سيبدأون من هذه اللحظة لتبرير جريمتهم القادمة في أية بقعةٍ أُخرى من كرتنا الأرضية، والله أعْلَمُ مِنَّا جميعاً. ﴿وَفَوْقَ كُـلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾.
* رئيس مجلس الوزراء