ركز القرآن الكريم كثيرا على نعم الله لأهميتها في معرفة الله
الحديث عن نعم الله سبحانـه وتعالـى مهم جداً، في القرآن الكريم آيات كثيرة تناولت كرم الله سبحانه وتعالى وإحسانه العظيم إلى عباده فيما أسبغ عليهم من النعم الظاهرة والباطنة، وتأتي لأكثر من هدف أو لأكثر من غاية، فدلائل على قدرته سبحانه وتعالى، على حكمته، على رعايته، على حسن تدبيره، على عظم إحسانه إلى عباده ليحبـوه ليعظمـوه ليجلّـوه، ليخلق فـي نفوسهم ذلك الأثر الذي تجد في نفسك أمام أي نعمة تسدى إليك من الآخرين.
هذه المشاعر مهمة جداً، عندما نستشعر عظم إحسان الله إلينا، عظم إنعامه علينا بنعم كثيرة جدًا، نعمة الهداية، نعم مادية كثيرة، نعمة كبيرة فيما أعطانا من هذه الكيفية التي قال بأنها أحسن تقويم {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين:4).
تلك المشاعر التي تتركها هذه، نظرتك إليها، نظرتك إلى من أسداها إليك، تلك المشاعر مهمة جداً في ربطك بالله، في ثقتك بالله، في انطلاقك في طاعته، في ابتعادك عن معصيته، في خوفك منه، في إجلالك له، في حيائك منه، في حرصك على رضاه.
فتصبح في حالة لست بحاجة إلى من يأتي يحلل لك المسألة، أنه لماذا وجبت الطاعات، من أين وجبت علينا، أليس هذا من منطق المتكلمين؟ كيف عمل الواجـب حتى وجب؟ ومن أين وجب حتى وجب؟ من أين؟ وكيف عمل؟ ما هو الذي يعتبر منطقياً، وشيئاً منطقياً يسوِّغ أن يكون هذا الواجب واجباً، من أين وجب الواجب حتى أصبح واجباً؟
لستـم بحاجـة إلى هـذا التحليل بكله، الذي يجعلك هناك، والله هناك، وكأنه لا علاقة بينك وبينه، معرفته الواسعة التي تسيطر على كل مشاعرك، هي التـي تدفعـك، هي التي تجعلك تقر بعبوديتك لله سبحانه وتعالى، فلا تحتاج إلى من يأتي ليشعرك بأنه واجـب عليـك، وبأنـك ملـزم بكـذا وكذا، أنت ترى أن المسألة فوق مجرد واجب وفوق مجرد إلزام.
أنت أصبحت تسير تلقائياً نحو الله سبحانه وتعالى، قلبك مليء بحبه، نفسك كلها سلمتها له، في حالة كهذه متى يمكن أن يجول بخاطرك تساؤل: من أين وجـب الواجـب حتـى وجـب؟ هذا التساؤل في الأخير يجعلك تتساءل من أين لزم اللازم حتى لزم.
إذاً لا بأس هذا لزمني لكن مجاملة، هكذا مجاملة، أو ليس معي مجال منه، لا بأس لزم لكن يمكن يكون لك حيَل شرعية لأجل ألا يلزم، ثم تنطلق في طريق التهرب من أن يلزم، من أين يجب؛ لأنه هو مقدار العلاقة فيما بينك وبين الله، فأنت مكره: [مكرهٌ أخـاك لا بطـل] كما يقولون. وجب، يقال واجب وغصباً عنا، وإن كنا لم نعرف بعد لماذا وجب، لزم وإن لم نكن نعرف بعد لماذا لزم؟ لكن لزم؛ لأن الصيغة جاءت بعبارة [افعل] أو نحوها، فتأتي القواعد التي تفتح الأبواب أمامك، فتجعل هذا ما يلزم، فتتعلم كيف تتهرب من أن يلزم، ما يلزم، كيف تتهرب من أن يجب الواجب بالنسبة لك، ثم نقول: عالم، عالم، وهو يتهرب عن الله، وهو يتهرب هناك عن أي شـيء يلزمـه، فيقول: يمكن أن نحاول ألا يلزمنا، وهذا الشيء لم يلزمنا، وما قد وجب علينا، وهكذا.
هل هذا ممن يمكن أن نقول فيه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: من الآية 28) لو أن قلبه مليء بخشيـة الله، لـو أن قلبـه مملـوء بمعرفـة الله الصحيحـة، لـو أن قلبـه مليء بحب الله لما كان على هذا النحو، فيسير في طريق التهرب من الأعمال التـي فيها رضا الله، حتى وإن كانت واجبة يتمسك بقواعد معينة تعفيه عن أن تكون قد وجبت عليـه مـن وجهـة نظـر تلـك القاعدة.
إذاً لا بد أن نعود إلى القرآن الكريم؛ لنعرف من خلاله أنفسنا كعبيد لله سبحانه وتعالى، لنعرف من خلاله المعرفة الواسعة لكمال الله سبحانه وتعالى، إلهنا، وربنا، وسيدنا، ومالكنا، والمنعم علينا.
وحينئذٍ ستبدو، وسيبدو الحديث عن النعم في القـرآن الكريـم لـه أهميـة كبيـرة فيمـا يتعلق بنفسيتك، وفي تعاملك مع الله، وفي نظرتك نحو الله سبحانه وتعالى.
ما يدلـك على أهميـة هـذا، أنه يقرن الحديث عن نعمه بإرشاد عباده إلى عبادته والأمر لهم بعبادته فيقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّـذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَـلَ لَكُـمُ الْأَرْضَ فِرَاشـًا وَالسَّمَـاءَ بِنَـاءً وَأَنْـزَلَ مِنَ السَّمَـاءِ مَـاءً فَأَخْـرَجَ بِـهِ مِـنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة:21 – 22).
ألم يتحـدث هنـا عن كيف يرعانا؟ الأرض بالنسبة لنـا فـراش، السمـاء بالنسبـة لنـا سقـف، فكأن مجموع الأرض مع السماء بالنسبة لنا بناء نقيم فيه {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَـاءِ مَـاءً} وهذا الماء ينزل بسهولة لا يكلفنا شيء لا نحتاج إلى مضخات، ولا نحتاج إلى بقر [نسْنِي] عليها، ولا نحتاج إلى شيء ينزِّل المطر، وفي دقائق معدودة ترى الأرض مملوءة بالماء في دقائق معدودة، هـذا الماء هو الذي يرتبط به كل حاجات الإنسان، كل حاجات الإنسان مرتبطة به.
{فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وأنتم تعلمون بهذا، أنه الذي خلق الأرض وخلق السماء، وأنه هو الذي ينـزل الماء من السماء، وأن هذه الثمرات هو الذي أخرجها بما أنزل من الماء، أليس للحديـث عن نعم الله هنا علاقة بتوحيده؟ {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أليس للحديث عن نعمه أثر كبير في الدفـع نحو عبادته؟ هو يقول: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} أليس للحديث عن نعمه أثر كبير في ترسيخ حالة التقوى في النفس؟ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
يبـدو الحديـث وكأنـه حديث عاطفي، وفعلاً تلمس في القرآن الكريم هذا الجانب، هذا الشيء، أو هذا الأسلوب يأخذ مساحة واسعة في القرآن الكريم، الحديـث الـذي يبـدو حديثـاً عاطفيـاً، استعطـاف {اعْبُـدُوا رَبَّكُـمُ الَّـذِي خَلَقَكُـمْ وَالَّذِيـنَ مـِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَـاءِ مَـاءً} أليس هنا يذكرنا بما عمل لنا؟ أم أنه يقول: اعبدوا ربكم وإلا فسوف نحرقكم، هل قال هكذا؟ ممكن أن يقول هكذا؟ وهي حقيقة – إن لم تعبد ربك سيعذبك بعد أن يكون قد أرسل من يبلغك، من ينذرك، من يعرفـك بعبادتـك لـه كيـف تعبـده لكن لا، هذا وإن كان شيئاً حقيقياً، وقد يبدو في بعض الآيات، لكن يأتي في مقام التهديد بعد أن يكون الإنسان قد عرف الكثير، وطرق مسامعه الكثير من الآيات التي تأتي على هذا الأسلوب، الاستعطاف.
وما أجمل العبارة التي قالها الإمام زيد (عليه السلام) – وهو يتحدث عن أقسام القرآن أو مجالات القرآن – قال: (وقسم منه استعطاف لعباده أو تعطف منه) ما أذكر بالتحديد هل تعطف أو استعطاف – ماذا يعني استعطاف؟ أي يخاطب وجدانـك، يخاطبـك أنـت كإنسـان ترعى الجميل، وتقدر الإحسان، وتشكر النعمة، وتعترف بالفضل لمن أسدى إليك النعمة ليشدك نحوه.
وهذا الشيء معروف في حياتنا معروف في تعاملنا مع بعضنا البعض، الواحـد منـا متى ما تحدث عن ابنه عندما تقـول له: [يا خبير ابنك ما لك أنت وايـاه كـذا؟ وبينكـم مزاعلـة، وبينكـم كـذا؟] فيقـول: عملـت له كـذا، وربيتـه، تعبت عليـه، وخسرت، وزوجته، واشتريت له سيارة، وعملت له كل شيء، وأعطيته رأس مال، ولكن بعد كل هذا رفض طاعتي، قد تقول هذا لابنك بعبارات من هذا القبيل، استعطاف تذكره بما أسديت إليه، قد تقول أنت لشخص آخر في مقابلة شخص آخر أصبـح له موقـف غيـر طبيعـي منه وأنت تعرف أياديه العظيمة عليه، يا رجـال تذكـر، هو الذي أدى لـك كـذا، وتعاون معك في كذا، ما ينبغي، ما يصح، ما يليق بك أن تعامله بهذا الأسلوب وهو الذي كذا، وهو كذا، إلى آخره.
أليس هذا استعطاف؟ أنت تخاطب وجدانه، وخطاب الوجدان، خطاب المشاعر في أعماق النفس تترك أثرها الكبير؛ ولهذا وجه الله عباده إليه في قوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت:34).
الكلمة الحسنة التي تبدر منك ترد بها إساءته، أنت هنا تخاطب وجدانـه، أليـس كذلك؟ هي تنفذ إلى أعماق وجدانه رغمًا عنه، وتتجاوز مظاهر الغضب وحواجز الغضب والانفعال، فتقتحم هذه الحواجز وتغوص إلى أعماق وجدانـه فتنعكس لتملأ كيانه كله عاطفة نحوك فيتحول إلى وليٍ حميم، بكلمة إحسان، بكلمة لينة، فكيف لا تلين قلوبنا لمن يحسن إلينا هذا الإحسان الكثير والإحسان الكبير، إحسان بالكلمـة وهـو يهدينـا، إحسـان بالنعمة وهو يسبغها علينا لدرجة أن قال لنا: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (النحل: من الآية 53) ليس هنـاك نعمة أنتم فيها، تتقلبون فيها في أجسادكم، وفي معيشتكم إلا وهي من الله، يبدو هنا الأثر المهم لخطاب الوجـدان واستعطاف المشاعر الداخلية، ما تترك من أثر من أجل ما تترك من أثر في كيان الإنسان وفي تصرفاته وفي توجهه، وفي نظرته.
فنحـن بحاجـة إلى أن نعـرف الله سبحانـه وتعالـى في توحيدنـا له كإله، أن نتعرف على كماله، نتعرف عليه سبحانـه وتعالـى، المعرفـة العملية بالتركيز، كما نركز على توحيده نركز على التعرف على ما أسدى إلينا من نعم، وعلى تقييمها وتقديرها، أن تنشدَّ أنفسنا نحوه، أن تمتلئ قلوبنا بحبه، أن تمتلئ قلوبنا خشيةً منه.
[الله أكبر/ الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل/ اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]
دروس من هدي القرآن
معرفة الله – نعم الله – الدرس الثاني
ألقاها السيد / حسين بدرالدين الحوثي
بتاريخ 19/1/2002
اليمن – صعدة