المحاضرة الرمضانية السادسة والعشرون للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1441هـ
أُعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
وتقبَّل الله منَّا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال.
اللهم اهدنا وتقبَّل منَّا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
تحدثنا في محاضرة الأمس على ضوء الآية القرآنية المباركة: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}[الأنفال: الآية34]، وعلى ضوء هذه الآية المباركة تبين لنا أشكال الصد عن المسجد الحرام، والأسلوب الذي يعتمد عليه الكافرون والمنافقون والمضلون في الاستغلال للعناوين الدينية، والاستغلال للمقدسات، والاستغلال للمساجد.
وتحدثنا على ضوء ذلك بما يفيدنا- إن شاء الله- في صناعة وعيٍ عن هذه المسألة، التي لا يعي الكثير حولها ما ورد في القرآن الكريم، وينخدعون، المسألة عندهم مسألة مسجد أي مسجد، وخطيب أي خطيب، ومنبر أي منبر، ومتحدث أي متحدث، وتأثروا به، فالقرآن الكريم هو يرفع مستوى الوعي لدى الإنسان، ويعطيه البصيرة الكافية؛ حتى يكون حذراً من كل مصادر الضلال، ومن كل أساليب الضلال والخداع.
والله -سبحانه وتعالى- قال أيضاً في القرآن الكريم: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ}[التوبة: 17-18]، فنلاحظ هنا أنه قدَّم معايير مهمة عن الذين يعمرون مساجد الله بشكلٍ صحيح، وفق توجيهات الله -سبحانه وتعالى-، وبما يتطابق مع تعليمات الله -سبحانه وتعالى-، ويؤدِّي الدور المطلوب لبيوت الله -سبحانه وتعالى- من خلال هذه المواصفات.
أمَّا الآخرون فأعمالهم قد حبطت، لا أجر لهم عليها، ولا فضل لهم فيها؛ لأنها مجرد أعمال استغلالية، وأعمال غير مقبولة عند الله -سبحانه وتعالى-، مهما فعلوا، مهما قدَّموا، مهما كانت: سواءً عمارة على المستوى المادي، يعني: قاموا ببناء مساجد ضخمة، ببنية ضخمة، بفراش وأثاث ممتاز، وخدمات معينة، أو كذلك قاموا بعمارتها بالتظاهر بأنها عمارة من خلال تفعيلها، ولكنها لا تخرج عن إطار الاستغلال الذي يساهم في المزيد من التضليل.
فالذي يعمر مساجد الله وفق توجيهاته وتعليماته، ويجعل لها الدور الذي أراده الله لها، هو من يمتاز بهذه المواصفات القرآنية المهمة: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ}، هذه العبارة القرآنية: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ}، من أهم المواصفات التي ستميز من يعمر مساجد الله بالشكل الصحيح من غيره، فالذي يخشى غير الله، مثلاً: في هذا الزمان من يخشى أمريكا، من يخشى إسرائيل، من يخشى عملاء أمريكا وعملاء إسرائيل، سيحرص على أن يترك الكثير فلا يقدِّمه في بيتٍ من بيوت الله، بل يمنع البعض من الأشياء في بيتٍ من بيوت الله؛ لأنها قد تغضب أمريكا، أو قد تغضب إسرائيل، أو قد تغضب عملاء أمريكا وعملاء إسرائيل، فمثل هذا سيجعل من دور المسجد: إمَّا دوراً منقوصاً، وإمَّا دوراً سلبياً، سلبياً بشكلٍ أكبر، دوراً يدعم فيه الضلال والباطل بشكلٍ مباشر، وإما يدعمه بشكلٍ غير مباشر من خلال هذا الانتقاص من الدور المطلوب لبيوت الله -سبحانه وتعالى-.
فالله -جلَّ شأنه- قال عن هذه النوعية ذات المواصفات المطلوبة: {فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}[التوبة: من الآية18]، فإذا كانوا من المهتدين سيقدِّمون الدور المطلوب للمسجد لبيت الله من خلال ما يقدِّمونه من هدى في بيت الله، يجعلون من منبره منبراً للهداية، يجعلون منه مسجدًا يؤدِّي دوره في تحقيق التقوى، في العمل على هداية الناس، في دفع الناس عملياً للاستجابة لله -سبحانه وتعالى-.
ثم يقول الله -جلَّ شأنه-: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}[الأنفال: الآية35]؛ لأن تلك الممارسات ممارسات غير مقبولة، ممارسات أصبحت جزءاً من صدهم، ومن عصيانهم، ومن أعمالهم السلبية التي يذوقون عليها العذاب، ويعذِّبهم الله عليها.
ثم يقول -جلَّ شأنه-: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}[الأنفال: الآية36]، يتحدث في هذه الآية المباركة أنهم: {يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، وتعتبر جريمة الصد عن سبيل الله من أكبر وأخطر الجرائم على الإطلاق، ومن أكبر جرائم الذين كفروا، وجرائم المنافقين، وجرائم الضالين… كل أولياء الشيطان تعتبر من أكبر جرائمهم وأفظعها هي: جريمة الصد عن سبيل الله.
وطبعاً في الذهنية العامة للناس لا يتصورون هذا التصور، بل بعضهم لا يدرك، لا ينتبه، لا يسمع حتى ولا يثقف بهذا التثقيف: أنها جريمة كبيرة، وهي في مقدِّمة الجرائم الكبرى، والذنوب الرهيبة، جريمة الصد عن سبيل الله، ما هو الصد عن سبيل الله؟ هو ثني الناس وصرفهم عن الاهتداء بهدى الله، والتمسك به، والاستجابة العملية لله -سبحانه وتعالى-، فمن يسعى لثني الناس، لصرفهم، لردهم عن الاستجابة العملية لله -سبحانه وتعالى-، عن الاتِّباع لهديه، والتمسك بهديه، فهو يصدهم عن سبيل الله -سبحانه وتعالى-، سواءً كان جملةً أو تفصيلاً، كان على المستوى الجملي، يعني: بشكلٍ عام، يسعى عن صرف الناس كلياً عن نهج الله وهديه، وعن الاستجابة العملية له، أو جزئياً، أشياء أساسية من الدين، تفاصيل معينة من نهج الله -سبحانه وتعالى-، من هديه، من تعليماته، من هديه المبارك، ويسعى لصرف الناس عنها، فهذا من الصد عن سبيل الله -سبحانه وتعالى-.
والصد له أساليب كثيرة، قد يكون الصد بالطريقة العسكرية: بمحاربة من يسعى لاتِّباع هدى الله، والتمسك بهدى الله، والاستجابة العملية لله -سبحانه وتعالى-، قد يحارب عسكرياً، فيتجهون لتمويل عمل عسكري لاستهدافه، من خلال المال الذي يقدِّمونه لتجنيد الناس للحرب العسكرية، وشراء السلاح، وتمويل مثل كل تلك الإجراءات والعمليات التي يتحركون فيها عسكرياً، وقد يكون أيضاً بأساليب أخرى، قد تكون عملية الصد من خلال النشاط التضليلي، الحملات الدعائية، نشر الشبه، وهذا كانوا ينشطون فيه حتى في محاربة رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-، كانوا يشكِّلون نشاطاً واسعاً على المستوى الدعائي والإعلامي والتثقيفي، فينشرون الدعايات التي تقدِّم صورة مشوهة للحق وللقرآن، ويقدِّمون الردود على العقائد الأساسية في الإسلام: على عقيدة التوحيد، على عقيدة البعث… على كثيرٍ من العناوين المهمة في الإسلام، وأحياناً عن الرسالة بكلها، وعن الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- ومصداقيته في الرسالة.
ثم يستمر هذا العمل عبر الزمن في كل جيل، وهو كان كذلك يعني في عهد الأنبياء السابقين ما قبل رسول الله محمد -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله-، فمن أبرز الجرائم الكبرى التي يتحرك فيها الذين كفروا وغيرهم، -سيأتي الحديث على نحوٍ تفصيليٍ أوسع- هي جريمة الصد عن سبيل الله، يتحركون عملياً بكل الوسائل وبكل الأساليب، وينفقون المال في تمويل أعمال كثيرة، الهدف منها: الصد عن سبيل الله، ثني الناس عن الاستجابة العملية لله -سبحانه وتعالى-، وعن الإتِّباع لهدى الله -سبحانه وتعالى-، فهم يتحركون في ذلك حركةً واسعة، وهذه جريمة خطيرة جدًّا، يأتي القرآن الكريم يتحدث عنها في آيات كثيرة: منها قوله -سبحانه وتعالى-: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا}[النساء: من الآية167]، ضلال بعيد، زادوا في ضلالهم، وابتعدوا في ضلالهم إلى درجةٍ كبيرة، عندما صدوا عن سبيل الله؛ لأنهم أضافوا إلى جريمة كفرهم جريمة الصد عن سبيل الله بكل فظاعتها وقبحها وعظيم جرمها.
يقول في آيةٍ أخرى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ}[النحل: الآية88]، فالله -سبحانه وتعالى- يعتبر صدهم عن سبيل الله جريمةً إضافيةً كبيرةً تعادل كفرهم، فيقول أيضاً: {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ}؛ لأن هذا من الإفساد، الصد عن سبيل الله يعتبر من الإفساد.
في القرآن الكريم تحدث أيضاً عن هذه الجريمة فيما يتعلق بأهل الكتاب في آياتٍ متعددة، منها قوله -جلَّ شأنه-: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا}[آل عمران: من الآية99]، {لِمَ}، تعتبر هذه جريمة رهيبة جدًّا يستنكرها عليهم استنكاراً كبيراً، ويعتبرهم في ذلك متعمِّدين، يريدون الاعوجاج، يريدون التحريف والتزييف والصد عن سبيل الله -سبحانه وتعالى-.
من الجرائم البارزة والشنيعة جدًّا للمنافقين، ومن أسوأ ما يعملونه: جريمة الصد عن سبيل الله، قال عنهم في القرآن الكريم: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[المنافقون: الآية2]، {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، من أسوأ أعمالهم، المنافقون من أسوأ أعمالهم أنهم يصدون عن سبيل الله؛ لأنهم يصرفون الناس ويثنونهم ويثبطونهم عن الجهاد في سبيل الله، عن الإنفاق في سبيل الله، عن العمل لإعلاء كلمة الله، عن إقامة الحق والعدل، عن أعمال مهمة، يتجهون لصرف الناس عنها، وثنيهم عنها، وتثبيطهم فيها، بل قال عنهم في آيةٍ أخرى بأنهم: {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ}[التوبة: من الآية67]، وهذا من الصد عن سبيل الله -سبحانه وتعالى-.
وهكذا يأتي الحديث عن هذه الجريمة الشنيعة الخطيرة، التي هي بنظر الكثير من الناس شيئاً طبيعياً، ليس في عداد الجرائم، في ذهنية الناس قائمة معينة للجرائم، مثلاً: القتل ظلماً، الزنا، شرب الخمر، الظلم… جرائم معينة: السرقة، في ذهنية الناس قاموس معين تحددت فيه مجموعة من الجرائم، وغابت مجموعة أخرى من أخطر وأسوأ الجرائم، ومن أهم ما نهتدي فيه بهدى الله -سبحانه وتعالى-: أن تكون لدينا فكرة متكاملة، ونظرة صحيحة، وأن يكتمل هذا القاموس، تضاف إليه هذه الجرائم الخطيرة؛ ليحذرها الناس، وليدركوا قبحها وجرم من يفعلها؛ لأن البعض من الناس قد يكون ممن يمارس هذه الجريمة: جريمة الصد عن سبيل الله، وقد يكون بنظر الناس إنساناً محترماً.
لاحظوا في القرآن الكريم- ومن أعجب ما يتفاجأ به الإنسان، ويستغرب منه الإنسان- يقول الله -سبحانه وتعالى- فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}[التوبة: من الآية34]، يخاطب مَنْ؟ الذين آمنوا: أنا، وأنت… كل الذين آمنوا، كل هذا المجتمع المسلم، {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[التوبة: من الآية34]، ثم يقول عن هؤلاء بكلهم: الأحبار، الرهبان، الذين يمارسون هذه الجريمة، والكانزين للأموال: أصحاب رؤوس الأموال الضخمة، الذين يمارسون هذه الجريمة، {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[التوبة: من الآية34]، نتأمل قليلاً في هذه الآية المباركة، الأحبار من هم؟ يعني: الذين هم بصفة علماء دين، من أسمائهم الأحبار، يعني: كبار علماء، وبصفة علماء دين، هذا الوصف خاصٌ بهم، من هم بصفة علماء دين، ثم يقول: {وَالرُّهْبَانِ}، من هم الرهبان؟ يعني: العبَّاد، الذين يتظاهرون بالنسك والعبادة، يحكي القرآن لنا ويؤكِّد لنا، {إِنَّ} هذه للتأكيد، معروف في اللغة العربية أنها للتأكيد، {إِنَّ}، ثم يقول: {كَثِيرًا}، وليست يعني حالات نادرة، بل هي حالة واسعة كثيرة، فالكثير من الأحبار، كثير ممن هم بصفة علماء دين، وكثيراً من العبَّاد: ممن هم يتظاهرون بالنسك والعبادة، هم على هذا النحو: {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ}، يتحيَّلون لها بعناوين وأساليب؛ لكي يحصلوا عليها، {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، صدهم عن سبيل الله، يعني: يثنون الناس عن أعمال مهمة من دين الله، من تعليمات الله، من توجيهات الله -سبحانه وتعالى-، من هدي الله تبارك وتعالى، فيثنون الناس عنها، ولربما صدهم هو من أخطر أنواع الصد؛ لأنه يأتي باسم الدين، صدٌ عن سبيل الله باسم الدين، وباسم التدين، وباسم العلم الديني والشرعي، وبالفلسفة الدينية، وبالخطاب الديني، وهذه قضية خطيرة جدًّا، تتطلب وعياً عالياً لدى الناس، لدى الذين آمنوا؛ حتى يتحصنوا، لماذا يقول الله هكذا؟ لأنه -جلَّ شأنه- الذي يهدي إلى سواء السبيل، هو الذي يريد لنا لكل الذين آمنوا أن يكونوا على درجةٍ عاليةٍ من الوعي، فلا يتأثروا بكل أساليب الصد عن سبيل الله، مهما كانت هذه الأساليب، ومهما كان مصدرها؛ لأن المصدر هنا بحد ذاته مصدر يشوش في الذهنية العامة، المصدر الذي هو عبارة عن عالم دين يمارس هذه الجريمة، بصفته عالم دين يؤثِّر على الكثير من الناس، يتقبل منه الكثير من الناس، قد يقدَّم على أنه من هيئة كبار العلماء، قد يقدَّم بعنوان معين من العناوين، وقد يأتي من يطبل له، من يمجده، من يعظمه، من يمدح علمه، وأنه كبير العلماء، وأنه يحتوي ويحوز حصيلة علمية كبيرة، وقد يكون لديه مكتبة ضخمة، ويحمل الكتب، ويتحرك تحت عنوان عالم الدين، وباسم العلم والعلماء، ثم يتحرك وهو يصد الناس، يثنيهم ويصرفهم عن أشياء مهمة من دين الله -سبحانه وتعالى-، هو يعارضها، له موقفٌ منها: إمَّا لأنه في صف الباطل يقف، أو لأنه لا ينهض بهذه الأعمال والمسؤوليات، ولا يتحرك فيها، ثم يسعى لتبرير موقفه بتخذيل الناس وصرفهم عن الاستجابة العملية لله -سبحانه وتعالى- في ذلك، أو لأن لديه تأثيرات أخرى: حسد مثلاً، وهم يتحدثون عن الحسد بين الأحبار، الحسد، حتى من العناوين البارزة في الكتب: الحديث عن حسد العلماء وطبعاً لا نعني بذلك العلماء الربَّانيين، العلماء الصالحين، العلماء المتقين، العلماء المؤمنين، الذين أوتوا العلم ورفع الله لهم الدرجات، لا، لكننا نعني هذه المساحة الأخرى: الكثير الذين لهم اتجاهات مختلفة.
وكذلك الرهبان، البعض من الناس قد يكون متظاهراً بأنه يواظب على العبادة، وعلى صلاة الجماعة، ولديه مسبحة، ويتظاهر بالتدين والتعبد، ولكنه يثني الناس ويصرفهم عن أعمال أخرى من دين الله، أعمال مهمة، ويمارس التضليل في تقديم صورة مزيفة ومنقوصة عن هدى الله -سبحانه وتعالى-، عن دين الله، عن تعليماته -جلَّ شأنه-، وهو بذلك يقدِّم من حيث يشعر خدمةً كبيرةً لأعداء الأمة، يقدِّم صورةً ناقصةً عن الإسلام، فالكثير كما في القرآن الكريم: {إِنَّ كَثِيرًا}، كما قلنا ليست حالةً نادرة؛ ولذلك تستوجب أخذ الحيطة والحذر والانتباه، فلا ينخدع الإنسان لمجرد عنوان: عنوان عالم دين، أو هيئة كبار العلماء، أو عنوان العلماء؛ لأن الكثير يتحرك تحت هذا العنوان، لا يكفي العنوان، الكثير يتحرك تحت هذا العنوان لممارسة الصد عن سبيل الله باسم الدين، فقد يبررون باطلاً، وقد يصرفون الناس عن حق، وقد يخذلونهم عن مسؤولية مهمة من أهم مسؤولياتهم، يأتي في القرآن الكريم المئات من الآيات في الحديث عنها، فيصرفونهم عنها.
فجريمة الصد عن سبيل الله هي من أفظع وأخطر وأسوأ الجرائم، ولها تأثيراتها السيئة لدى الكثير من الناس، الذين يتأثرون بهذا الصد، فينصدون، وينصرفون، ويتجهون اتجاهات أخرى، ويتركون الكثير مما يأتي الصد عنه، والصد- كما قلنا- يأتي عسكرياً، يأتي أيضاً بوسائل الترهيب، يأتي أيضاً بوسائل التضليل، وسائل التضليل هي من أخطر وسائل الصد عن سبيل الله، الصد بوسائل التضليل، بالحملات الدعائية؛ لتشويه الحق، لتشويه المنهج الحق، لتشويه المسؤوليات المهمة، لتشويه الأعمال العظيمة، لتشويه من يتحرك ويدعو إليها، يأتي أيضاً النشاط التضليلي بالطابع الفكري والتثقيفي والتعليمي، يأتي أيضاً بطابع الخطاب الديني.
كم هناك اليوم في هذا العصر من قنوات مخصصة للصد عن سبيل الله: شيءٌ منها أو بعضٌ منها بأسلوب الخطاب الديني، بعضٌ منها بأسلوب الإفساد والتمييع، شيءٌ منها بأسلوب… ببرامج متنوعة ومتعددة تستهدف الإنسان، وتأتي له عن يمينه وشماله، ومن خلفه ومن أمامه، بكل أنواع الخطاب، وبكل وسائل التأثير، فجزء كبير ينصب في اتجاه صد الناس وصرفهم عن أعمال مهمة، ودفعهم في اتجاهٍ آخر، في الأعمال والمنهجية الأخرى التي هي خارج إطار منهج الله -سبحانه وتعالى- وهديه، ولماذا؟ لماذا ينفقون أموالهم أموال هائلة جدًّا ويمولون بها أعمالاً للصد عن سبيل الله بكل أشكالها وبكل وسائلها، لماذا؟ لأن الذين كفروا هم يرون في سبيل الله وسيلةً تحرر الناس من سيطرتهم، ومن استغلالهم، ومن استعبادهم، تعبِّد الناس لله، وتحرِّك الناس في إطار منهج الله -سبحانه وتعالى-، وتحررهم، وتنقذهم، وتخرجهم من حالة العبودية والاستغلال والهيمنة لأعداء الحق، لأعداء الله، للذين كفروا، وفي نفس الوقت هي تعارض ما هم عليه من ممارسات ظالمة، من باطل، من طغيان، من إجرام، من إفساد؛ لأن طريقة وسياسات ومنهجية الذين كفروا في هذه الحياة في كل زمن وفي كل عصر، هي: منهجية استعباد، واستغلال، وهيمنة، وسيطرة، ونشر للفساد، وممارسة للظلم والطغيان، والذي يحرر الناس من كل ذلك هو سبيل الله، هو هديه ونوره، وبالاستجابة العملية له، فهم ينزعجون من ذلك، إذا اتجهت الأمة على هذا الأساس: على أساس سبيل الله، إذا سارت في هذا الطريق؛ تحررت منهم، من هيمنتهم، من استغلالهم، ولم تعد مذعنةً لهم، وخانعةً لهم، وخاضعةً لهم، وتحررت من كل وسائل سيطرتهم؛ لأن لهم وسائل للسيطرة على الناس، هي عبارة عن سياسات على كل المستويات: سياسات في الجانب الاقتصادي، سياسات في الجانب السياسي، سياسات في الجانب الاجتماعي، وممارسات وتوجهات تساعدهم على السيطرة على المجتمع، فسبيل الله هو سبيل يحرر الأمة، يحرر الناس، يحرر المجتمع البشري، وينقذه من هيمنتهم، من هيمنة الطاغوت، من الاستعباد للطاغوت، من السيطرة والاستغلال من جانب الطاغوت، ويبني المجتمع البشري، يبني أي مجتمعٍ يتحرك على أساسه ليكون مجتمعاً حراً بكل ما تعنيه الحرية، يعني: لم يعد متأثراً ولا خانعاً ولا يعيش حالة التبعية للطاغوت ولأعداء الأمة في أي شأنٍ من شؤون حياته، يتحرر من التبعية لهم في كل وضعه، في كل واقعه، ويتجه لبناء واقع حياته في كل المجالات على أساسٍ من تعليمات الله، من هدي الله، من القيم والمبادئ الإلهية العظيمة، التي هي لصالح الناس أنفسهم.
للأسف الشديد غابت الصورة الحقيقية لمفهوم في سبيل الله، لمفهوم هدي الله، لمفهوم منهج الله، الصورة الجميلة والعظيمة والرائعة عن ذهنية الناس؛ لأننا أصبنا باتجاهين بمصيبتين بحربين بتشويه هذه الصورة:
جانب الذين كفروا وهم يحاربون الأمة، ويقدِّمون في كل حربهم الثقافية والإعلامية والتضليلية… بكل أشكالها، بكل وسائلها، بكل مناهجها، صورة تشويهية تهاجم هدى الله -سبحانه وتعالى-، تقدِّم صورةً عنه أنه حالة من التخلف، أنه حالة من الضعة والسقوط، أنه لا علاقة له بالحياة، ولا يصلح هذه الحياة، وليس في مستوى أن يبني هذه الحياة، وأن يعالج مشاكل هذا الإنسان، وأن يصلح واقع هذا الإنسان.
وصورة من الجهات التي تتحرك باسم الدين نفسه، لكنها تشوه هذا الدين، تشوه منهج الله -سبحانه وتعالى-، كما يفعله التكفيريون، وكما يفعله أمثالهم ممن يتجهون هذا الاتجاه التشويهي، الذي يقدِّم مفاهيم مغلوطة، وناقصة، وقاصرة، وملتبسة، ومتجزئة، ويحذف كل الجانب الحضاري من الإسلام، كل الجانب الحضاري والبنَّاء في هذه الرسالة الإلهية، في هذا المنهج الإلهي العظيم، ثم يقدِّمون صورةً متوحشة، وصورةً سلبية.
إنَّ سبيل الله، وإنَّ منهجه العظيم، وإنَّ هديه المبارك، هو أسمى وأعظم ما يمكن أن يعتمد عليه البشر لصلاح حياتهم، وأسمى وأعظم ما يمكن أن تُبنى عليه أرقى حضارة في الواقع البشري، ولا يماثله شيءٌ لصلاح حياة الناس، ولحل مشاكلهم في كل المجالات: على المستوى السياسي، على المستوى الاقتصادي، على المستوى الاجتماعي… في كل واقع حياتهم، وفي كل مجالات حياتهم، ثم هو أعظم ما يمكن أن يترك أثراً إيجابياً في الإنسان نفسه، في تزكية نفسه، في تنويره، في تزويده بالمفاهيم الصحيحة، بالرؤى الصحيحة، بالفهم الصحيح، بالنظرة الصائبة، بالحكمة، كما يقول في القرآن الكريم.
وإنَّ الأعداء من الطواغيت، من الذين كفروا، من الضالين، من المفسدين، يرونه يعارض ممارساتهم الظالمة، يعارض هيمنتهم الاستكبارية، سيطرتهم واستغلالهم للناس بما فيه ظلمٌ للناس، بما فيه إفسادٌ للناس؛ ولذلك هم ينزعجون منه، وينزعجون بشكلٍ أكبر بالجوانب الرئيسية الحسَّاسة في هذا المنهج الإلهي العظيم، في هذا الهدي المبارك في سبيل الله -سبحانه وتعالى-؛ فلذلك يحاربون تلك الأشياء الأساسية الرئيسية، ويحاولون على الأقل أن يحتووا هذا المنهج الإلهي، وأن يبغوه عوجاً، كما يتحدث في القرآن الكريم، أن يتحول إلى معوج، بعد أن يُدخلوا من خلال عملية التحريف والتزييف مفاهيم معوجة محسوبةً عليه، على أنها منه وليست منه، هي معوجة، ثم قد يتقبلها الناس على أنها منه وليست منه، فيعظم الاعوجاج، ويحصل الخلل، وتتم لهم عملية الصد بأساليب كثيرة، ممن يتفاعل معهم، يتقبل منهجهم.
لكن عندما يكون هناك من يتحرك، من يجد، من يعمل في الاتجاه الصحيح، فالله -سبحانه وتعالى- قد تكفل بأن يفشل وأن يبطل كل مساعي كل أولئك الصادين عن هذا المنهج الإلهي المبارك، فإنَّ الله سيفشل كل مؤامراتهم وكل مساعيهم.
في عصر الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- أنفقوا الكثير من الأموال، وتحركوا بكل الوسائل، وحاربوا، وجنَّدوا، ونشروا الشائعات، وتحركوا بكل وسائل التضليل، ولكنهم فشلوا، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا}، سينفقون ويمولون الكثير من الأعمال لهذا الهدف، ولهذا الغرض: للصد عن سبيل الله، ليجنِّدوا من سيتجند معهم على المستوى العسكري، على المستوى الإعلامي… في وسائل كثيرة، للأنشطة الاستقطابية، وأموال هائلة يقدِّمونها في ذلك.
{ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً}، هم كانوا يؤملون فيها، ويراهنون عليها، ويعتمدون عليها، ويظنون ويتوقعون أنها ستحسم المعركة لصالحهم، مستندهم واعتمادهم وارتكازهم على ما يمتلكونه من إمكانات مادية، فهم يتوقعون أنها ستضمن لهم أن يكسبوا معركتهم ضد سبيل الله؛ لأنهم يعتبرونها مصدر قوة ومصدر تأثير، فهم يراهنون عليها، يراهنون على ما بأيديهم من إمكانات مادية ضخمة، وأموال هائلة، ويعوِّلون عليها في كسب هذه المعركة، {فَسَيُنْفِقُونَهَا}، ويبددونها هنا وهناك، ويموِّلون هذا العمل، وهذه الخطة، وهذه الوسيلة، وهذا الأسلوب، تمويل هائل، {ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً}، ثم بعد أن ينفقوا الكثير، ويبددوا الكثير، ويخسرون الكثير؛ يفشلون، ولا يصلون إلى نتيجتهم المرجوة، ويرون أنَّ كل مؤامرتهم باءت بالفشل، ويرون أنَّ كل مخططاتهم ورهاناتهم سقطت وفشلت، فحينها يتحسَّرون على تلك الأموال الهائلة التي قد أنفقوها، تلك الميزانيات الضخمة التي رصدوها لصالح تلك المؤامرات، وتلك الخطط، ويرون أنَّ كل تلك الجهود تبددت وتلاشت وفشلت، يشعرون بالحسرة والندم والأسف.
ليس هذا فحسب، أكثر من ذلك: {ثُمَّ يُغْلَبُونَ}، بعد الفشل، بعد سقوط تلك المؤامرات، بعد ضياع تلك الأموال الضخمة والميزانيات الهائلة: {يُغْلَبُونَ}، فيكون فشلهم مضافاً إليه الهزيمة وأن يغلبوا كارثة عليهم، ومصيبة كبيرة، وأكثر من ذلك: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}، وبعد ذلك جهنم، إنما في الدنيا أن يتحسروا ويشعروا بالخسارة فيما قد قدَّموه من أموال هائلة جدًّا، {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} على المستوى العسكري وغيره، ويفشلون فشلاً كاملاً، ويهزمون، وبعد ذلك في الآخرة: يحشرون إلى جهنم والعياذ بالله؛ لأنهم ارتكبوا هذه الجريمة وهي: الصد عن سبيل الله، جريمة رهيبة جدًّا، عن منهج الله الحق، الذي له الأولوية أن يتَّبعه العباد، وأن يهتدي به العباد، وأن يتمسك به الناس، فأتوا بباطلهم، بجرائمهم، بفسادهم، بظلمهم، بطغيانهم ليعملوا أن يحل هو محل سبيل الله، وبدلاً عن سبيل الله -سبحانه وتعالى-.
عندما نلاحظ هنا في سياق الحديث عما ينفقوه الذين كفروا من أموالهم، إنفاق وبسخاء، أموال كبيرة وكثيرة، وميزانيات ضخمة، لماذا؟ {لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، هنا نعود إلى واقع الذين آمنوا والمسؤولية عليه أن ينفقوا في سبيل الله، فإذا كان {الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، بكل ما لذلك من آثار سلبية عليهم، بكل ما لذلك من نتائج وخيمة عليهم، وهي مجرد خسارة، ويتحمَّلون بها الوزر والإثم والذنب العظيم، فلماذا لا ينفق الذين آمنوا أموالهم في سبيل الله، بعد أن وعد الله بالأجر المضاعف، والفضل الكبير، والخير الكبير، وبما لذلك من نتائج مهمة في واقع حياتهم في الدنيا، وعواقب إيجابية وعظيمة في الدنيا والآخرة.
الله -سبحانه وتعالى- قال في كتابه المبارك: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}[البقرة: من الآية195]، أنفقوا في سبيل الله ولا تبخلوا وتمسكوا هذا المال عن الإنفاق، فيكون هذا البخل سبباً لأن تلقوا بأنفسكم إلى الهلاك، الأمة إذا بخلت ولم تنفق، وعطَّلت العمل في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله، والتحرك في سبيل الله؛ فهي تهلك نفسها، هي تمكِّن أعداءها منها؛ لأنها عندما تنفق في سبيل الله -سبحانه وتعالى-، فهي تنفق فيما فيه عزتها وكرامتها وقوتها، وفيما يساهم في دفع الخطر عنها، ودفع الشر عنها، ودفع الظلم عنها، وإنقاذها من هيمنة وسيطرة الطغاة والمجرمين والمستكبرين والظالمين.
الذين آمنوا لماذا لا ينفقون في سبيل الله، والله -سبحانه وتعالى- قد وعد بالأجر العظيم، وقدَّم أعظم ضمانةٍ على أن يعوِّضهم، على أن يخلف لهم، على أن يبارك لهم، عندما يقول -جلَّ شأنه-: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[البقرة: الآية245]، هل بعد هذا ضمانة: أن يسمي الله -سبحانه وتعالى- الإنفاق في سبيله قرضاً؟ {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ}، {يُقْرِضُ اللَّهَ- وهو الغني -جلَّ شأنه– قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}، يعوضك الله -سبحانه وتعالى- عوضاً مضاعفاً كثيراً وكثيراً في الدنيا وفي الآخرة، يعوضك الله حتى مادياً في الدنيا، وبأجرٍ واسع أهم حتى من الجانب المادي، في جوانب كثيرة، في نفسك وفي حياتك؛ أما في الآخرة فالجنة، الله -سبحانه وتعالى- حث على الإنفاق في سبيله حثاً واسعاً في القرآن الكريم في آياتٍ كثيرة، وما بعد هذا التعبير من ضمانة يقدمها الله -سبحانه وتعالى- للذي ينفق في سبيله، وكأنه أقرض الله، وكأنه قدم مبلغاً قرضةً لله -سبحانه وتعالى- سيبدله الله له، وسيعوضه الله له، قال -جلَّ شأنه-: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}[الأنفال: الآية60]، قال -جلَّ شأنه-: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ}[البقرة: من الآية261]، لاحظوا جعل الأجر هنا، وجعل حجم ومستوى الإنفاق في سبيله بسبعمائة ضعف كحد أدنى، سبعمائة ضعف كحد أدنى، وإلَّا يمكن أن يضاعف الله أكثر، عندما قال: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ}، يمكن أن يزيد أكثر وأكثر، بل قال -جلَّ شأنه-: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}[التوبة: من الآية111]، فالذين آمنوا عندما ينفقون أموالهم في سبيل الله فهم ينفقون فيما هو في سبيل عزهم، وكرامتهم، وقوتهم، وحياتهم، ودفع الظلم عنهم، ودفع الشر عنهم، ودفع الهوان عنهم، وينفقون في سبيل من يضاعف لهم، من يجزيهم خير الجزاء، من يبارك لهم، من يعوضهم بأضعاف مضاعفة في الدنيا والآخرة، من يعطهم في مقابل ذلك الجنة، لا يليق بالذين آمنوا، ولإنفاقهم هذا الأجر وهذا الفضل، وله نتيجة تتحقق في الدنيا ببركةٍ من الله -سبحانه وتعالى-، نتيجة عظيمة فيها الخير، والفلاح، والقوة، والكرامة، والعزة، والخير المضاعف في الدنيا والآخرة، لا يليق بهم أن يمسكوا، أن يبخلوا، لا يليق بهم أن يقبضوا أيديهم في الوقت الذي ينفق الذين كفروا أموالهم بسخاء فيما هو ظلم، فيما هو صد عن سبيل الله، فيما هو إفساد، فيما هو نشر للضلال، فيما هو نشر للباطل، فيما هو دعم للشر، لا يليق بالذين آمنوا أن يكونوا أقل سخاءً في الإنفاق من أولئك الذين ينفقون ليصدوا عن سبيل الله؛ لأن عاقبة ما ينفقه الذين آمنوا عاقبةٌ حسنة، ليس حسرة، فوز، سعادة، عندما ترى ما أعد الله لك في الجنة، عندما تصل إلى ما جزاك الله به من الخير في الجنة، كيف ستكون سعادتك؟ تربح الجنة، تنفق وتربح الجنة، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}.
ثم يقول الله -جلَّ شأنه-: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[الأنفال: الآية37]، تأتي الآخرة، ويأتي اليوم الآخر، ويأتي الحساب في الآخرة، ويميز الله الخبيث من الطيب، كما أماز الخبيث من الطيب في الدنيا، فالخبيث في الدنيا صد عن سبيل الله، الخبيث في الدنيا أعرض عن نهج الله، الخبيث في الدنيا اتجه اتجاهاً آخر، والطيب هو الذي تمسك بسبيل الله -سبحانه وتعالى-، يأتي ما يميز الخبيث من الطيب في الدنيا؛ لأنها سنة الله -سبحانه وتعالى-، كما قال -جلَّ شأنه-: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}[آل عمران: من الآية179]، فالله يميز الخبيث من الطيب في الدنيا، ويتبين من يتجه في سبيل الله -سبحانه وتعالى- وفق منهج الله وهديه، ومن يتجه اتجاهاً آخر، ومن يتجه للصد عن سبيل الله -سبحانه وتعالى-، ثم يكون ما يميزهم به يوم القيامة هو المصير الذي يصير إليه كل طرف، مصير الخبيث مصيراً سيئاً جدًّا، مصير الخسارة الكبرى، يخسرون في الدنيا، ثم مصيرهم في الآخرة الخسارة الكبرى.
الفرز في الدنيا من خلال الاختبار (الغربلة للناس) في مواقفهم، في أعمالهم، في سلوكياتهم، وفي الآخرة الفرز من خلال الفصل بينهم والحكم بينهم، ثم من خلال الجزاء، قائمٌ على هذا التصنيف: {الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}، وهو عنوانٌ مهم، هذا التصنيف فيه عنوانان مهمان جدًّا:
عنوان الخبيث: كيف يخبث الإنسان؟ الإنسان يخبث عندما يتلوث بما يدنس فطرته، بما يلوث زكاء نفسه وصلاحها، يخبث الإنسان حينئذ، يمكن أن تتلوث بما يدنس فطرتك بما تتقبله من ضلال، وبما تعمله من أعمال سيئة، وتصرفات سيئة، ومواقف سيئة، تعزز وترسخ الخبث في نفسك؛ لأن كل ضلالٍ يتقبله الإنسان يترك خبثاً في نفسه، وكل عملٍ سيءٍ يعمله الإنسان، وكل كلامٍ سيءٍ يتكلم به الإنسان يعزز في نفسه الخبث، يترك في نفسك نسبةً من الخبث، فإذا اتجه الإنسان الاتجاه السلبي في هذه الحياة، فالخبث يتراكم في نفسه، خبث على خبث على خبث على خبث؛ حتى يفقد زكاء نفسه، ويفقد الطيبة في نفسه، ويتحول إلى خبيث، خبيث بشكل كامل، بعد أن فقد الخير في نفسه، فقد الصلاح في نفسه، فقد الزكاء في نفسه، يتحول إلى خبيث؛ لأن الخبث تراكم في نفسه، بأعماله المتراكمة من الأعمال السيئة، بالضلال المتراكم الذي تقبله، فزادت نسبة الخبث حتى طغت عليه في واقعه وفي نفسه؛ فيتحول إلى خبيث، بعد أن يصل إلى هذه المرحلة، ويصل إلى هذا المستوى من الخبث الذي يتحول فيه إلى خبيث، يصبح من أهل جهنم، ويصبح بعيداً- بشكلٍ كبير- بعيداً جدًّا عن العودة إلى طريق الحق، لا يتقبلها، لم يعد عنده قابلية حتى في نفسه، يكره الحق، يكره أهله، يبغضهم، يكره الأعمال الصالحة، يتعقد منها ويبغضها، لا يطيقها نفسياً؛ لأن نفسه قد خبثت، لم تعد تنسجم مع الحق وأهله، ولم تعد تنسجم مع الأعمال المهمة، والأعمال العظيمة، الإنسان إذا خبث يصبح من حصة جهنم.
ولهذا كما قرأنا في قول الله -سبحانه وتعالى-: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}، يميز الخبيث من الطيب من أين؟ من بين الذين آمنوا، بين الذين انتموا للإيمان، وقدموا أنفسهم على أنهم مؤمنون، وفيهم الخبيث، الذي نفسه خبيثة، أعماله خبيثة، أقواله خبيثة، تصرفاته خبيثة؛ فخبثت نفسه، الخبث يأتي حتى إلى الكلمة، يمكن أن يكون هناك كلمة خبيثة، {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} قال الله في القرآن الكريم {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}[إبراهيم: الآية26]، الخبث قضية خطيرة على الإنسان، قضية خطيرة على الإنسان، وهو يحدث نتيجةً للانحرافات في واقع الإنسان، عندما ينحرف حتى لو كان في صف الذين آمنوا، ومحسوباً منهم، لكن يتهاون، يستهتر، فيعمل الأعمال السيئة، فأعماله السيئة، أو خياناته إذا كان يخون، هي تترك نسبةً من الخبث في نفسه، تكثر هذه النسبة وتتعاظم حتى يتحول إلى خبيث.
في يوم القيامة يأتي التصنيف للبشر على أساس طيبٍ وخبيث، كيف يطيب الإنسان؟ بأعماله الزاكية، بأعماله الصالحة، باستجابته العملية لله -سبحانه وتعالى-، بتزكية النفس من خلال هدى الله -سبحانه وتعالى- الذي ينقي ويطيب مشاعرك من كل تلك المعاني السلبية: من حالة الحسد، من حالة الحقد، من حالة الكبر، من حالة الغرور، من حالة العجب، من حالة الميول للفساد… يزكي نفسك ويطيبك، تتحول نفسك إلى نفس زاكية، وتتحول أنت إلى طيب: أعمالك طيبة، كلماتك طيبة، تصرفاتك طيبة؛ تبتعد عن الأعمال الخبيثة، عن الكلمات الخبيثة، عن التصرفات الخبيثة، تتجنبها وتتركها.
في يوم القيامة يميز الله الخبيث من الطيب، كما قال هنا: {لِيَمِيزَ اللَّهُ}، يأتي الحشر، ويأتي الحساب، ويأتي الجزاء، ويجعل مصير الذين كفروا ومن سيلحق بهم ممن صد عن سبيل الله، أو سار في طريق الصد عن سبيل الله، {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ}، يجمع في يوم القيامة كل الخبيث، خبيث الذين كفروا، وخبيث المنافقين، والخبيث من الذين آمنوا الذي لم يزكُ ولم يصلح وكان منتسباً إليهم، كله.
{بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ}، يجعل الخبيث {بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ }، نعوذ بالله من سخط الله! هذا يعبر عن سخط كبير من الله، حيث يجمع الكل، كل الخبثاء يوم القيامة، يجمعهم جميعاً، ويلقي بهم إلى جهنم بهذه الطريقة الرهيبة: {فَيَرْكُمَهُ}: يلقى ذلك الخبيث إلى جهنم مركوماً بعضه فوق بعض، {فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} ليحترق بكله في نار جهنم؛ لأنه لا يمكن أن يدخل الخبيث إلى الجنة، حتى لو كان منتسباً للذين آمنوا، الجنة عالم للطيبين، لمن قد طابوا، {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}[الزمر: من الآية73]، تتوفاهم الملائكة طيبين، فالطيبين الذين قد زكوا في هذه الدنيا، صلحوا في هذه الدنيا، زكت نفوسهم في هذه الدنيا، يمكن أن يدخلوا الجنة، لو دخل الخبيث إلى الجنة لأفسد في الجنة، أفسد في الدنيا والدنيا ليست كالجنة، الأرض ليست في تصميمها، فيما فيها من الخيرات والمغريات كالجنة، لو دخل الخبيث إلى عالم الجنة وفيها المغريات العجيبة، كيف سيكون فساده، كيف سيكون سوؤه ؛ ولذلك الخبيث يتجه إلى النار.
{فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}، نعوذ بالله، خسارة في الدنيا وخسارة في الآخرة، خسروا جهدهم، حياتهم، أعمالهم، ما عملوه وما أنفقوه في هذه الدنيا تحول إلى وبالٍ عليهم، وخسروا مستقبلهم الدائم والأبدي في الآخرة، وخسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، واتجهوا إلى جهنم للعذاب فيها للأبد والعياذ بالله!
نكتفي بهذا المقدار…
ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛