نص المحاضرة الرمضانية الرابعة والعشرون للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1441هـ
أُعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
وتقبَّل الله منَّا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال.
اللهم اهدنا وتقبَّل منَّا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
نواصل الحديث على ضوء الآية القرآنية المباركة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[الأنفال: الآية27]، وتحدثنا عن بعضٍ مما ينطبق عليه أنه من الخيانة لله، والخيانة للرسول، والخيانة للأمانة، ولا شك أيضاً أنَّ من صور الخيانة ومن أشكالها، من أشكال الخيانة لله -سبحانه وتعالى- وللرسول والخيانة للأمانة مع بعض، الخيانة لذلك كله، هو عندما يخون الإنسان المبادئ والقيم الإلهية، والتمكين الإلهي، الذي كان على أساس التحرك تحت عنوان تلك المبادئ والقيم، فعندما يتحرك الإنسان باسم أنه مجاهدٌ في سبيل الله -سبحانه وتعالى-، ويسعى لإقامة الحق والعدل، ويقف بوجه الظلم، ثم عند التمكين الإلهي، وبعد التأييد الإلهي، والذي أتى على أساس التحرك بهذه العناوين، وبهذه المبادئ، وبهذه القيم، وضحى الكثير بأنفسهم في سبيل الله من أجل ذلك، يستغل الإنسان من موقعه في المسؤولية: إما كقائدٍ عسكري… أو في أي موقع من مواقع المسؤولية، يستغل موقعه في المسؤولية، ومنصبه المعين، والإمكانات التي بيده وهي لسبيل الله، أو هي للحق العام، والموقع الذي وصل إليه بعد تضحيات وجهود كبيرة من أجل قيمٍ عظيمة، من أجل مبادئ عظيمة، من أجل عنوانٍ عظيم، من أجل سبيل الله، من أجل الله، من أجل الحق، من أجل دفع الظلم، يستغل موقعه منصبه، فيمارس الظلم من موقعه: إمَّا الظلم للناس في أنفسهم: قتلاً، أو سجناً، أو تعذيباً، أو اضطهاداً، أو إذلالاً، بالقول، بالكلام، عندما يطلق كلمات من موقع التجبر والاستكبار والإساءة والاحتقار، أو التهديد والوعيد بغير حق… أو نحو ذلك، وبالفعل مثلما أشرنا: بقتل، أو بسجن… أو غير ذلك، أو على ممتلكات الناس، أن يقتطع أرضاً لشخص، أو يأخذ حقاً على شخص، أو يبتز إنساناً في ماله، فيأخذ عليه من ماله، وعندما ينطلق مستنداً إلى ما قد بلغ فيه من التمكين ضمن أمة تحركت على أساس مشروعٍ قائمٍ على أساس إقامة العدل والحق، فهو يخون الله، يخون التمكين الإلهي، يخون تلك الأمة، يخون تلك المبادئ، يخون تلك القيم، يخون كل الشهداء الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل الله -سبحانه وتعالى- من أجل إقامة الحق، وإقامة العدل، وليس من أجله شخصياً؛ لكي يصل إلى مرحلة من المراحل فيأخذ تلك الأرض، أو يسطو على تلك الممتلكات، أو يبتز ذلك الإنسان ماله، أو يمارس ممارسات إجرامية، وممارسات ظالمة، خيانةٌ كبيرة من أي شخص، وخيانةٌ في مسيرتنا القرآنية لهذه المسيرة المباركة من أي شخصٍ كان: قريباً أو بعيداً، في أي موقعٍ من مواقع المسؤولية، أن يستغل موقعه أو منصبه لكي يمارس الظلم، لكي يتجبر، لكي يتحول إلى طاغية، لكي يتفرعن، ثم لا هو يستجيب للتذكير بآيات الله، ولا هو يرتدع عندما يذكَّر، ولا هو ينزجر عندما يذكَّر أيضاً بأخذ العظة والعبرة من الطغاة والمجرمين، مثل هذه النوعية لا يجوز السماح لها أبداً أن تواصل مشوارها الظالم، وتفلّتها في ممارسة الطغيان والإجرام، ويجب التعاون من الجميع لمنع أي إنسان يتحول إلى طاغيةٍ مجرم، ويخون المبادئ والقيم العظيمة، ثم لا يتذكر إذا ذُكِّر بآيات الله، لا يجوز أبداً السماح له بمواصلة هذا النوع من الخيانة والإجرام بحق الناس، والخيانة لله، والخيانة للمبادئ والقيم العظيمة.
والمجتمع معنيٌ، المجتمع المسلم، المجتمع المؤمن، الذين آمنوا معنيون أن يتعاونوا على البر التقوى، وأن يمنعوا العدوان، وأن يمنعوا الإثم، وأن يحاربوا الخيانة، وأن يتصدوا لكل أشكال الخيانة، وأن يعملوا إضافةً- إلى المنهج التربوي والتذكير- إلى منع الخيانة، ومنع الخونة، الإنسان الخائن هو منحط، هو دنيء، نفسيته نفسية فاسدة، لا يصل الإنسان إلى مستوى الخيانة، وإلى مستوى الإصرار على الخيانة، وعدم القبول بالتذكير حتى بآيات الله، إلَّا وقد تحول إلى إنسانٍ دنيءٍ منحطٍ مجرمٍ، فقد الخير في نفسه، فقد الإيمان في نفسه، فقد الزكاء في نفسه، إما أنه قد امتلأ بالغرور والكبر والطمع والهوى، وأصبح يتحرك من واقع المزاج الشخصي، وفقد التقوى، لم يعد يتقي الله؛ حينها يجب منع هذا النوع من الناس من ممارسة جرائمهم وظلمهم، والاستمرار في خيانتهم، هذا مما فيه حياة المجتمع المؤمن: أن يكون مجتمعاً حياً، لا يفتح المجال للذين يتسلَّقون على الأكتاف، والذين يستغلون التضحيات الجسيمة، إذا كان الإنسان يريد أن ينحو هذا المنحى الإجرامي الطغياني الظالم، فليتحرك كفرد بمفرده، لا يستند على ظهور وأكتاف أمة مؤمنة مضحية مجاهدة مقدِّمة معطاءة، لا يستند إلى ذلك الرصيد من الشهداء، الذين قدَّموا أنفسهم وأرواحهم في سبيل الله، ليس من أجله ليتحول إلى قائد عسكري، أو مسؤول معين، أو في منصب معين، فيمارس ذلك الظلم، ليس من أجل ذلك قدَّموا أرواحهم وحياتهم، وليس من أجل ذلك قدَّم الآخرون معهم المال والغالي والنفيس والتضحيات الكثيرة.
هنا أنتهز هذه المناسبة في الحديث عن هذا الموضوع لأذكر كل الذين ينتمون إلى مسيرتنا القرآنية في أي موقعٍ كانوا، في أي منصبٍ كانوا، وفي أي مستوى كانت صلتنا بهم: أننا لن نقبل لهم ولن نرضى لهم أبداً بأن يستغلوا هذه المسيرة القرآنية، وما فيها من التضحيات والجهود والشهداء، والمسؤوليات الكبرى التي نهضت بها أمة مؤمنة مضحية مجاهدة على رأسها صفوةٌ من عباد الله، ومن الأخيار من أولياء الله، لكي يتسلقوا ظهر هذه المسيرة وأكتاف هذه الأمة، ثم ليمارسوا الظلم، ثم ليبتزوا هذا ماله، أو ليأخذوا على هذا أرضه، مثل هؤلاء الناس لن نرضى لهم بذلك أبداً مهما كان، مهما حصل، مهما وقع، مهما كانت صلتهم بنا، أو قرابتهم منا، أو علاقتهم بنا، هذا إنذار تمليه علينا المسؤولية، ويفرضه علينا الواجب، نحن سنسعى بكل جهد إلى أن نحارب كل هذا المستوى من الخيانة، من الظلم، من الإجرام، من أي متسلطٍ أو مجرم، مستعينين بالله -سبحانه وتعالى-، وساعين إلى الحفاظ على نقاء هذه المسيرة، نقاء هذه المسيرة العظيمة التي قدَّمت الآلاف والآلاف من الشهداء، من الوفاء لهم، ومن الوفاء لله، ومن الوفاء للمبادئ والقيم العظيمة في هذه المسيرة، أن نحرص على هذا الموقف، أن نسعى إلى تنقية هذه المسيرة، ألَّا نسمح لهذا النوع من المتسلِّطين المجرمين، الذين يخونون المبادئ والقيم، ويخرجون عنها بممارسة الظلم والجرائم والنهب والابتزاز، وإن شاء الله يعيننا الله على ذلك، ويوفِّقنا في ذلك.
من أشكال الخيانة والتي باتت في هذا الزمن من الظواهر المنتشرة إلى حدٍ كبير لدى الكثير من الناس، هي خيانة مال الوقف، الأوقاف هي منتشرة إلى حدٍ كبير، هناك الكثير من المزارع، الكثير أيضاً من الأراضي التي أوقفت، المصالح التي أوقفت، إما كانت وقفاً للمساجد، أو كانت وقفاً للفقراء، تكون غلَّاتها لصالح الفقراء… أو وقفاً في أي وجهٍ من وجوه القربة إلى الله -سبحانه وتعالى-.
وللأسف الشديد مع التقصير في الماضي على مستوى التوعية الدينية والإرشاد الديني من جانب، والتقصير من جانب الجهات المسؤولة، على مستوى الدولة، على مستوى الجهات الحكومية من جانبٍ آخر، بل في مراحل معينة يتحول الجميع مشتركون في هذه الخيانة: الجهات المسؤولة في الدولة فيما مضى، والقائمين على تلك الوقفيات، الذين هم شركاء في تلك الأوقاف، الكل يتعاونون أحياناً في خيانة الأوقاف، هذا يأخذ، وهذا يأخذ.
الأوقاف هي من القرب التي يتقرب بها الناس إلى الله -سبحانه وتعالى-، وعندما يخون الإنسان في مال الوقف، فهو يخون خيانات متعددة: هو خان الواقف الذي أوقف ذلك المال، تلك الجربة، تلك المزرعة، تلك الممتلكات، تلك المصالح التي أوقفها، عندما تخون في مال الوقف، أنت تخونه، تخون الواقف، وأنت تخون الموقوف له، الذي إليه هذه المصلحة المعينة، أو الغلات المعينة تتجه إليه، مسجدا، أو فقراء… أو غير ذلك، وفي نفس الوقت هي خيانةٌ لله -سبحانه وتعالى-، وخيانةٌ للأمانة التي بيدك.
للأسف الشديد قد يغفل الكثير من الناس أنه عندما يُؤَكِّل أسرته مما يخون فيه مال الوقف، من حصة الوقف، الإنسان أحياناً قد يكون شريكاً مع مال الوقف، له حصة وللوقف حصة، فيأتي ليقتطع: إمَّا يقتطع حصة الوقف بالكامل، كما يعمله البعض، وإمِّا ليقتطع منها أيضاً نسبةً معينة، أو جزءاً معيناً، وقد يُؤَكِّل منه أسرته، وهو يُؤَكِّلهم الحرام، يُؤَكِّلهم الحرام، ثم هو مع هذه الخيانة لا تقبل له صلاة، لا يقبل منه أي عملٍ صالح، يفسد إيمانه، يفسد صلته بالله -سبحانه وتعالى-، يؤثِّر على وضعه، ويتراكم ذلك كثيراً وكثيراً، مع الاستمرار على أكل هذا المال الحرام من خلال هذه الخيانة الخطيرة يتراكم الوزر ويكبر ويكبر، البعض قد تصل النسبة التي أكلها من أموال الوقف في آخر حياته إلى مبلغٍ كبير، كافٍ لتخليده في جهنم والعياذ بالله، فهذا يدخل في أكل مال الحرام، في أكل المال بالباطل بغير حق، وفي الخيانة، ومن المهم للناس أن يحذروا من ذلك، أن يتخلَّصوا من ذلك؛ لأنه أحياناً مع قلة الضبط في هذا الجانب في كثيرٍ من المراحل الماضية، والبعض من الناس إذا لم يكن فوق رأسه عصا تسوقه إلى دفع الحق؛ يتجرأ على الخيانة، ولا يتق الله -سبحانه وتعالى-، مع أنَّ المفترض أن يكون الإنسان خائفاً من الله، وخائفاً مما يمكن أن يناله من مصائب من ذلك في الدنيا؛ لأن مثل هذا النوع من الخيانة له مصائب في الدنيا، ويترتب عليه عقوبات عاجلة في الدنيا، وله آثار سيئة في نفس الإنسان، وفي أعماله، وفي مسيرة حياته، ثم آثاره السيئة والسلبية في الآخرة.
الموضوع في غاية الأهمية، الموضوع مهم جدًّا، وخطير جدًّا، ولذلك نحن ننصح ونذكِّر ونحث كما نؤكِّد على أهمية أن يتعاون الجميع: الجهات المسؤولة في الدولة، وأيضاً المجتمع من جانبه، أن يتعاون الكل في سبيل دفع هذه الخيانة، منع هذه الخيانة، تصحيح هذه الوضعية، وإصلاح هذه المشكلة، وصولاً بعودة الناس إلى دفع حصص الوقف، والجهات في الدولة كذلك معنية بتطوير آلياتها العملية، بتصحيح وضعها الإداري أكثر فأكثر، بالعمل على إيجاد آلية إدارية جديدة تساعد على استخلاص هذا الحق، والعناية بهذا الجانب بشكلٍ كبير؛ لأنه أيضاً جانبٌ مهم في الحقوق الشرعية، مثلما الزكاة وهي ركنٌ من أركان الإسلام، وشأنها أكبر وأعظم، والأوقاف أيضاً لها أهمية كبيرة، وخطورة الخيانة في هذا الجانب والمعصية في هذا الجانب كبيرة جدًّا على الناس في حياتهم، وفي واقعهم، على المجتمع بشكلٍ عام.
ويذكِّرنا الله -سبحانه وتعالى- بأنَّ نتجه إليه، أن نأمل فضله، أن نسعى لنيل الأجر منه، عندما قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[الأنفال: الآية28]، عند الله الأجر العظيم في الدنيا والآخرة، لنعمل من الأعمال ما يقرِّبنا إلى الله، ما ننال به الخير من الله -سبحانه وتعالى-، هذا مهم.
بعد ذلك أتى قول الله -سبحانه وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[الأنفال: الآية 29]، بدلاً من الخيانة، بدلاً من الاتجاه السلبي في عدم الاستجابة لله -سبحانه وتعالى-، الاتجاه الصحيح هو اتجاه التقوى (تقوى الله -سبحانه وتعالى-)، تقوى الله في الاستجابة العملية لله، تقوى الله في الطاعة الصادقة لله -سبحانه وتعالى-، تقوى الله في الاستقامة على منهجه وبشكلٍ صحيح، تقوى الله في النهوض بالمسؤولية، والتحرك بما فيه حياة الأمة، بما فيه خيرها وعزها وفلاحها وفوزها، هنا الله يعد هذا الوعد العظيم والواسع والجامع: {يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}، كما تحدثنا بالأمس تشمل عبارة الفرقان: التنوير الإلهي والهداية الإلهية، وهذا مكسب كبير جدًّا للإنسان، يفرق بين الحق والباطل، والتصرفات الصحيحة والخاطئة، والأعمال المناسبة وغير المناسبة، يمتد هذا إلى واقع الحال، فرقاناً في حالكم، تنتقلون إلى وضعية أفضل في حالكم، في ظروفكم في هذه الحياة، في واقعكم في هذه الحياة، أكثر عزة، أكثر سعة، أوسع يسراً… وهكذا، مع تكفير السيئات، مع المغفرة، ثم عندما أضاف إلى ذلك قوله -جلَّ شأنه-: {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}، ليذكِّرنا بأنَّ المجال مفتوح أيضاً لنعمٍ أوسع، هذا من فضل الله العظيم، وأيضاً يعد بما يمكن أن يكون أكثر ذلك.
ثم يقول -جلَّ شأنه-: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[الأنفال: الآية30]، يذكِّر الله -سبحانه وتعالى- في هذه الآية المباركة نبيه -صلوات الله عليه وعلى آله-، ويبصِّرنا جميعاً نحن كأمةٍ مسلمة الذين آمنوا بهذه النعمة التي أنعم بها -جلَّ شأنه-، وبهذه الرعاية، وهذا التأييد الإلهي العجيب، في مرحلة قد كانت لربما من أخطر المراحل على مستقبل الإسلام، وعلى مسيرة الإسلام، فهي مرحلةٌ مكر فيها الذين كفروا برسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-، وتآمروا عليه، في مرحلةٍ كان لا يزال وضعه من حيث: الأنصار، والإمكانات، والقوة، وضعاً ضعيفاً جدًّا، يعني: لا يمتلك الإمكانات، ولا القدرات العسكرية، ولا الأنصار الذين يمكنهم أن يتصدوا للأعداء في مكرهم هذا، فهو مكرٌ في مرحلة حسَّاسة وصعبة وخطيرة جدًّا، ومكرٌ خطير؛ لأنه يستهدف النبي -صلوات الله عليه وعلى آله-، يستهدف رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، بكل ما يمثله من أهمية، ومن ضمانة لتبليغ هذه الرسالة، ولإقامة هذا الدين، فكان هذا الخطر خطراً على الرسالة بكلها، وخطراً على رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- الذي يمثِّل الأهمية الرئيسية؛ لأنه هو الحامل لهذا المشروع الإلهي، والمبلِّغ لهذه الرسالة الإلهية، وهو لا يزال أيضاً في مرحلة التبليغ، وفي مرحلة السعي لإقامة هذا الدين، فكانت هذه خطوة خطيرة جدًّا، تهدف إلى طمس معالم هذا الإسلام، والقضاء عليه، وفي مرحلة حسَّاسة وخطيرة.
مكر هؤلاء الأعداء كان يدور حول دراسة ثلاثة خيارات؛ لاستهداف النبي -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله- بواحدٍ منها: {لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ}، {لِيُثْبِتُوكَ}، يعني: التقييد والحبس، {أَوْ يَقْتُلُوكَ}: القتل، {أَوْ يُخْرِجُوكَ}: الإخراج من مكة، وتروي السِّير، ويروي التاريخ، ويذكر التاريخ أنه استقر خيارهم على خيار أو عملية القتل، أن يقتلوا رسول الله -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله-، وخططوا لتنفيذ هذه العملية خطةً اشتهرت ونقلتها كتب السِّير والتاريخ: أن يجمعوا من كل قبيلةٍ أو بطنٍ من بطون قريش فارساً من أشدائها، ومقاتلاً من أبطالها، ليجتمع الكل فينفذوا هذه العملية لاستهداف النبي -صلوات الله عليه وعلى آله-.
{وَيَمْكُرُونَ}، قاموا بتجهيز هذه الخطة، وإعدادها، والسعي لتنفيذها، {وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}، عندما مكروا مكرهم هذا، ودبَّروا مؤامرتهم هذه، وجهَّزوا هذه الخطة، وسعوا لتنفيذها، فالله -سبحانه وتعالى- تدخَّل برعايته العجيبة في تلك المرحلة الصعبة والحسَّاسة والخطيرة جدًّا، ودبَّر لنبيه -صلوات الله عليه وعلى آله- الهجرة بحفظ من الله -سبحانه وتعالى-، ورعايةٍ من الله -سبحانه وتعالى-، وحمايةٍ من الله -سبحانه وتعالى-، حتى أنَّ الله أنزل إليه جنوداً من ملائكته لحمايته، كما ذكر ذلك في سورة التوبة.
قصة الهجرة معروفة: أمر الله نبيه بالخروج، وخرج، أبقى الإمام علياً عليه السلام لينام على فراشه كعملية تمويه للأعداء، وخرج من دون أن يشعروا به، واتجه إلى غار في أطراف مكة، في جهة غير متجهة نحو المدينة، في جهةٍ أخرى، وبحثوا عنه، ووصلوا إلى مداخل ذلك الغار، لكن الله أنزل جنوداً من عنده من ملائكته لحماية النبي -صلوات الله عليه وعلى آله-، ومكَّنه من الهجرة، وهيَّأ له مرحلةً جديدة توفر فيها الأنصار الذين تحركوا لرفع راية الإسلام، واستكمل عملية الإبلاغ للرسالة.
هنا الله -سبحانه وتعالى- بهذا التذكير يطمئن نبيه -صلوات الله عليه وعلى آله- تجاه ما قد يجده من البعض من تخاذل وعدم استجابة، وتجاه أيضاً ما يجده من البعض من خيانة، وفي نفس الوقت يعزز الأمل ويرسخ الرجاء لدى النبي -صلوات الله عليه وعلى آله-، ولدى المؤمنين الصادقين معه؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- الذي منَّ بتلك الرعاية، بذلك الحفظ، بتلك المعونة في ذلك الظرف الحسَّاس، في تلك المرحلة العصيبة والخطيرة جدًّا، فمنَّ فيها بهذه الرعاية، هو سيمن برعايته وتأييده فيما بعد ذلك، في المراحل القادمة، في مواجهة التحديات القادمة، في مواجهة الأخطار الآتية، فهذا يطمئن ويعزز الأمل للنبي -صلوات الله عليه وعلى آله-، وللذين آمنوا في عصره وما بعد عصره، في كل زمن، وهو درسٌ لنا في هذا العصر: أنَّ هذه الرسالة الإلهية هي عنصر قوة، هي سبب خيرٍ ونصرٍ وعزٍ وفلاحٍ، هي صلةٌ مع الله -سبحانه وتعالى- لنيل تأييده، لنيل معونته، لنيل نصره، للحصول على رعايته؛ لأنها مدعومةٌ من الله -سبحانه وتعالى-، مؤيدةٌ من الله -سبحانه وتعالى-، إذا سارت عليها الأمة، إذا تمسكت بها الأمة؛ كان الله معها، ومعية الله -سبحانه وتعالى- سببٌ للنصر والعز مهما كان مكر الأعداء، مهما كانت مؤامراتهم في خطورتها، أو في دقتها، أو في نوعها، فالله -سبحانه وتعالى- هو خير الماكرين؛ لأن مكره بالحق، ولأن مكره بالعدل، لأن مكره فاعل ومؤثِّر، ويحبط مكر الأعداء، ويطيح بمؤامراتهم مهما كانت في تعقيداتها، في أساليبها، في وسائلها، ومهما كان لديهم من إمكانيات لتنفيذ تلك المؤامرات وذلك المكر، وهذا درسٌ مهمٌ ومطمئن.
الله -جلَّ شأنه- قال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[التوبة: الآية33]، هذه مسألة مهمة جدًّا، تساعد الناس على الاطمئنان عندما يسيرون في طريق الحق، عندما يستجيبون الاستجابة العملية، أنَّ النتائج هي نتائج مهمة؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- يأتي بنصره، بمعونته، بتأييده مع ذلك: مع الاستجابة العملية.
ثم يقول -جلَّ شأنه-: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}[الأنفال: الآية31]، كان موقفهم من الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- موقفاً معادياً، وحاولوا أن يستهدفوه، وحاولوا أن يقتلوه، وكان موقفهم من القرآن الكريم كذلك موقفاً معادياً، فكانوا إذا تتلى عليهم آيات الله -سبحانه وتعالى- من القرآن الكريم لا يؤمنون بها، ولا يقبلون بها، ولا يتفاعلون معها، ولا يتأثرون بها، بل كانوا يواجهونها بهذا الكفران، بهذا الجحود، بهذه العقد: {قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا}، بدون تفاعل مع ما سمعوه من هذه الآيات المباركة، التي لو أنزلها الله على جبل لخشع ولتأثر، فيما يعبِّر عنه هذا من طغيان، من كفر، من جحود، من استكبار، ثم قولهم: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا}، مجرد كلام للاستهلاك الإعلامي، وليس ذلك بصحيحٍ أبداً، النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- تحداهم، فلم يأتوا ولا بمثل آيةٍ من آيات الله -سبحانه وتعالى-، كانوا عاجزين؛ إنما للمكابرة، وحسب المصطلح الإعلامي في هذا الزمن: للاستهلاك الإعلامي، والمناورة الإعلامية.
ثم قولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}، يريدون أنما يقدِّمه القرآن الكريم من قصصٍ تاريخي، ومن حقائق، ومن مفاهيم، ومن عقائد، أنه مجرد أسطورة، ما يقدِّمه القرآن أسطورة، يعني: لا حقيقة له، ليس صحيحاً، وكان بعد الأولين، كمثل ما كان عند الأولين من أساطير وقصص خيالية لا صحة لها، فهم كفروا بالقرآن، كفروا بالرسول وكفروا بالقرآن، وواجهوا القرآن الكريم بمثل هذا النكران، وبمثل هذا الرفض، حرب إعلامية كانوا يشنونها لمعارضة الإسلام، ولمعارضة الرسالة الإلهية، حاربوا بكل الوسائل، ومكروا بكل الوسائل، وتحرَّكوا بكل الأساليب.
{وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[الأنفال: الآية32]، هذا الموقف من جانبهم يوضِّح ما بلغوه من التعنت والاستكبار والجحود، عندما وصلوا إلى هذه الدرجة، فهم يحاولون أن يبدوا موقفاً نهائياً في جحودهم لهذه الرسالة ولهذا الدين، إلى هذه الدرجة أنهم يقولون وكأنهم يتظاهرون بأنهم يدعون: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، بدلاً من أن يقولوا: فاهدنا إلى هذا الحق، فاشرح صدورنا لتقبل هذا الحق، كانوا يقولون هكذا تعبيراً عن مدى تعنتهم، وتظاهراً بثقتهم بما هم عليه من الباطل، وتظاهراً بثقتهم أنَّ هذا ليس هو الحق.
هذه الحالة من الطغيان والتعنت يصل إليها الإنسان حينما لا يقبل بالحق، يذكَّر بآيات الله فلا يقبل بالحق، يصل إلى هذه الحالة السلبية جدًّا، قد يتمنى الهلاك والعذاب ولا يقبل بالحق؛ لشدة تعنته وعناده، وهذا التعنت والعناد نهايته جهنم، وهي التي سيقف الإنسان فيها بين استعار نيرانها وحرارتها، بين قيودها وأثقالها، بين جحيمها وحميمها، بين شرابها الصديد، وطعامها الزقوم، وهو يحترق فيها خاشعاً، خاضعاً، خانعاً، ذليلاً، مقهوراً، هي نتيجة هذا التكبر: فبئس مثوى المتكبرين {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}، مع ما يمكن أن يأتي الإنسان في الدنيا، هؤلاء الذين تعنتوا هذا التعنت، الذين وقفوا هذا الموقف أذلهم الله وكسر شوكتهم في الدنيا، في معركة بدر نفسها، البعض منهم ممن كانوا في منتهى الطغيان والاستكبار والتعنت، قهرهم الله -سبحانه وتعالى- وقتلهم في غزوة بدر، البعض منهم فيما بعد ذلك، والبعض منهم دخلوا في الإسلام يوم الفتح طلقاء مرغمين أذلاء مستسلمين.
{أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، تأخير العذاب عنهم بعد قولهم هذا ليس لأنهم ليسوا في مستوى أن يُعذبوا، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الأنفال: الآية33]، أما هم فيما هم عليه فهم يستحقون العذاب، ولكن سنة الله -سبحانه وتعالى- أن يجعل مرحلةً معينة للتبيين وإقامة الحجة، فتلك المرحلة التي كان النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- متواجدا فيما بينهم، كان يبين لهم، وكان يقيم عليهم الحجة، بعد استتمام الحجة، واكتمال إقامة الحجة، واكتمال التبيين، وإذن الله -سبحانه وتعالى- بالهجرة يتغير الحال، {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، هنا يقدم الله -سبحانه وتعالى- طريقاً للنجاة من عذابه، هي الاستغفار، يعني: طلب المغفرة، طلب المغفرة عنوان واسع، لا يقتصر فقط على قولنا (نستغفر الله)، أو (أستغفر الله)، بل أن نسعى لكل ما وعد الله بالمغفرة عليه.
لاحظوا مثلاً: في الآية المباركة التي سبقت، وهي قوله -جلَّ شأنه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ}، لاحظوا، هنا قدم المغفرة ضمن المكافآت والعطاءات التي يمنُّ الله بها بناءً على تقواه -سبحانه وتعالى-.
لاحظوا، في الحديث مثلاً عن الإيمان والجهاد في سورة الصف، عندما قال: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ}[الصف: من الآية12]، لاحظوا أيضاً في ما تحدث به القرآن الكريم عن الصدقات، وذكر في إخفاءها وإتاءها الفقراء سبباً للمغفرة وتكفير السيئات، وهكذا يأتي في القرآن الكريم الإرشاد إلى الأعمال التي ينال بها الإنسان مغفرةً من الله -سبحانه وتعالى-، ومع ذلك كله لا بدَّ من التوبة، لا بدَّ من الرجوع إلى الله -سبحانه وتعالى- الرجوع العملي، رجوعاً عملياً، يعني: تعود للالتزام بتوجيهات الله، بطاعة الله، بتقبل توجيهات الله -سبحانه وتعالى-، والسير وفق هديه ومنهجه، وتستغفره، تطلب أيضاً منه المغفرة، وتأخذ بأسباب المغفرة، فمن أهم أسباب النجاة من عذاب الله -سبحانه وتعالى- هو الاستغفار وطلب المغفرة، والسعي لنيل المغفرة بأسبابها، ومن العجيب في القرآن الكريم أن بعض المواضع يقدم فيها أيضاً بالمناسبة؛ لأن الحديث أتى عن العذاب، فأتى الحديث عمَّا يدفع العذاب، وهذه من رحمة الله -سبحانه وتعالى-، هذه من أبلغ مظاهر رحمة الله -سبحانه وتعالى-: أنه عندما تحدث عن العذاب تحدث عمَّا يقي من العذاب، وعمَّا يدفع العذاب، ليرشد عباده برحمته إلى ما يقيهم من عذابه.
نكتفي بهذا المقدار…
ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛