مناهضةُ أمريكا في الحياة السياسية للشهيد الصمَّـاد
إنَّ مكانةَ أيِّ قائد وقُدوة في ذاكرة الشعوب تحدّدُها مواقفُه ورصيدُ أعماله وآثار إنجازاته، لكن من المهم التذكير بأن تلك الأعمال والمواقف لا تكونُ إلا ترجمةً لمستوى وعيه (السياسي والثقافي والفكري والوجداني) الذي ينبغي الانتباهُ إليه دائماً لتوضيح الصورة المكتملة عن القُدوة بجانبَيها الفكري والعملي، ومن هنا فإن الرئيس الشهيد صالح الصمَّـاد، والذي نعيشُ اليومَ الذكرى الثالثة لاستشهاده، قد احتلَّ مكانةً رفيعةً جِـدًّا في الذاكرة اليمنية، كقائد وقدوة؛ لأَنَّه جسّد تكاملاً مثيراً للإعجاب بين الفكر السياسي والثقافي النيِّر، والفاعلية العملية في الميدان، ونحن هنا نحاول أن نتناولَ جزئيةً أَسَاسيةً ميّزت الخلفية الفكرية التي انطلق منها الشهيد في تحَرّكه العملي كقائد دولة في مواجهة العدوان، وهي الجزئية المتعلقة بمناهضة أمريكا.
كونه أحدَ أبرز منتسبي مدرسة الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي الفكرية والثقافية، كانت مسألةُ مناهضة الاستكبار الأمريكي أحدَ أبرز المبادئ الراسخة التي انطلق منها الشهيد الصمَّـاد في عمله كسياسي وثقافي، والواقعُ أن هذا المبدأَ لم يكن قابلاً للتجزئة أَو خاصاً بمجال معيَّن من العمل، فمدرسةُ الشهيد القائد ترسخه كالتزام ديني في المقام الأول.
على المستوى السياسي، من يتفحص خطاباتِ الشهيد الصمَّـاد وتصريحاته الصحفية ولقاءاته، يجد حضوراً كَبيراً لهذا المبدأ الراسخ الذي لم يفشل أبداً في أن يفضيَ إلى اتِّخاذ المواقف الصحيحة التي تمتلئُ بها سيرة الشهيد سواء قبل العدوان أَو أثنائه، والواقعُ أن الصمَّـاد، في فترة رئاسته للمجلس السياسي الأعلى بالذات، قد صنع نموذجاً فريداً لقائد الدولة الذي يجعل مسألة مناهضة السياسات الاستعمارية الأمريكية مرجعية رئيسية لسياسة البلاد، وهو الأمر الذي لم يكن تميزاً على مستوى التأريخ السياسي الوطني فحسب، بل على مستوى التأريخ السياسي للمنطقة التي لم تعرف معظم أنظمتها مرجعية أَسَاسية لسياساتها سوى الرغبات الأمريكية.
“العدوانُ على اليمن أمريكي منذ الطلقة الأولى”.. هكذا يقدم الشهيدُ الصمَّـاد، في أحد خطاباته، توصيفاً موجزاً للموقف اليمني الرسمي من العدوان، وهو ما يعني أن كُـلّ التحَرّكات العسكرية والسياسية يجب أن تأخذ التوجّـه الأمريكي في عين الاعتبار، وأن تكون موجهة في المقام الأول ضد الولايات المتحدة، الأمر الذي يقطع الطريق أمامها للعب دور “الوسيط”، وهذا أمرٌ مهم جِـدًّا في تحديد حيثيات القرارات السياسية والعسكرية.
وبحسب الشهيد نفسه، فقد حاولت الولاياتُ المتحدة أن تبتعد أن عن الصورة منذ بداية العدوان، الأمر الذي يعني أن تحديد المصدر الحقيقي للعدوان وترسيخ ذلك في معركة المواجهة، كان أمراً مهماً للغاية.
وقد ظهرت هذه الأهميّة بشكل واضح على المسرح السياسي للأحداث خلال جولات المشاورات التي كانت الولايات المتحدة تقدم نفسها كوسيط خلالها، وعنها يتحدث الشهيد الصمَّـاد في مقابلة مع قناة العالم قائلاً: إن “الأمريكيين ليسوا جادين في إيجاد حلول للأزمة وهم فقط يريدون أزمة تحت سيطرتهم، ليتحكموا في خيوطها”، ويقول في خطاب له أَيْـضاً إن “الأمريكيين لديهم استراتيجية أَسَاسية تتمثل في إبقاء الأمل الكاذب لدى المتحاورين ليبقى وضع البلد مشلولًا”.
وفي خطاب آخر، يقدم الشهيد الصمَّـاد أمثلة مهمة على طريقة إدارة الأمريكيين للأزمات في المنطقة حيث يقول: “بالرغم من أن الجيش السوري والنظام السوري في مرحلة تقدم، وأدواتهم في مرحلة تقهقر وانهزام إلا أنَّ الأمريكيين غير حرصين على حَـلٍّ جذري للأزمة في سوريا، هم فقط يعملون هُدَنًا وتهدئةً ليرتبوا وضع أوراقهم من جديد؛ لأَنَّ الأمريكيين يستفيدون من الصراع”.
هكذا نجد بوضوح أن تبني الشهيد الصمَّـاد، كقائد دولة، لمبدأ مناهضة السياسات الأمريكية، كان له تأثير كبير على مسار معركة المواجهة، إذ لو لم يتم التعامل مع العدوان بهويته الأمريكية، لكانت الكثير من الخدع السياسية قد مرت واستطاع العدوان من خلالها أن يحقّق إنجازات كبيرة أخفق في تحقيقها؛ بسَببِ امتلاك القرار السياسي لصنعاء مناعة ضد المراوغات الأمريكية لإدارة الأزمات.
وحتى في اللحظة التي وجه فيها الشهيد الصمَّـاد مبادرته الشهيرة لوقف العمليات الصاروخية ضد العمق السعودي، ووقف معارك الحدود، مقابل وقف العدوان والحصار، لم يغفل عن توجيه رسالة مباشرة إلى المصدر الحقيقي للعدوان، حيث أوضح يومها أنه “من المتوقع أن ترفض الولايات المتحدة المبادرة”، الأمر الذي يقطع الطريق أمام واشنطن لمحاولة استثمار ذلك العرض ولعب دور الوسيط بين صنعاء والرياض.
ويتحدث الصمَّـاد في مناسبة أُخرى عن أهداف العدوان، مؤكّـداً على أن “من يتأمل المشروع الأمريكي في المنطقة وسياسته لتمزيق المنطقة والاستبداد بثرواتها يترسخ لديه قناعة تامة أن العدوان على اليمن أتى لتمزيق اليمن، وفرض المشروع الأمريكي حتى وإن كان بأدوات إقليمية وفي مقدمتها النظام السعودي”، الأمر الذي يعني أن مواجهة العدوان هي مواجهة للسياسة الأمريكية في المقام الأول، وذلك يعني إحباط أول هدف من أهداف المشروع الأمريكي وهو أن تكون الحرب يمنية سعودية تتحكم الولايات المتحدة بطرفَيها.
وفي التعامل مع تفاصيل الأعمال العدوانية على اليمن، لم ينفك الشهيدُ الصمَّـاد عن توضيح الصورة الكاملة دائماً لتحديد المصدر الحقيقي لتلك الأعمال، فهو على سبيل المثال يتحدثُ في أحد خطاباته عن الحرب الاقتصادية، مؤكّـداً أن “نقلَ البنك المركزي خطوة أمريكية هدفها القضاء على كُـلّ مقومات العيش في البلد” ويوضح في مناسبة أُخرى أن “الأمريكيين استخدموا الورقة الاقتصادية في العدوان منذ وقتٍ مبكر ولوّح بها السفير الأمريكي في وجه الوفد الوطني المفاوض للقبول بعودة الفارّ “هادي” إلى “صنعاء” أَو الحصار واستهداف العملة الوطنية، ونقل البنك المركزي”.
بالمقابل، وفي سياق المواجهة، حرص الشهيد الصمَّـاد دائماً على تقديم الإنجازات الميدانية اليمنية كانتصارات على الولايات المتحدة، ففي أحد خطاباته ينقل تصريحاً عن قائد القوات المركزي الأمريكية جاء فيه: إن الجيش واللجان باتوا يمثلون خطرا على أمريكا، ويعلق الصمَّـاد بأن ذلك “نعمة”؛ لأَنَّ هذا التصريح يمثل فشلاً ذريعاً للأهداف التي شنت الولايات المتحدة العدوان على اليمن لتحقيقها، والتي كان ضمنها القضاء على القوة العسكرية الوطنية.
وكان الشهيدُ الصمَّـاد يحرصُ أَيْـضاً على أن يكونَ الموقفُ الشعبي من العدوان موجهاً ضد الولايات المتحدة في المقام الأول، إذ يؤكّـد في خطاب له على أنه “من الخطورة أن يعلن الأمريكي موقفًا رسميًا، وفي مجلس الشيوخ الذي يقر السياسات الأمريكية، أنه شريك أَسَاس في العدوان على اليمن، ثم لا نرى ذلك يحرك ساكنًا لدى الكثير” بينما يتحدث عن النظام السعودي دائماً كمُجَـرّد أداة.
وفي الوقت الذي كان العدوان يصعّد فيه عملياته في الساحل الغربي، وكانت الإمارات تتصدر المشهد كقائدة للتصعيد، حرص الشهيد الصمَّـاد على توضيح الصورة الحقيقية، منبهاً إلى أن “معركة الساحل تديرها أمريكا ولا علاقة للمرتزِقة بها، وحتى ما يسمى وزارة الدفاع ورئاسة الأركان لدى المرتزِقة لا تصلها أبسط المعلومات من الساحل”.
إن تتبُّعَ جميعِ المحطات التي حرص فيها الشهيد الصمَّـاد على تأسيس السياسة الرسمية اليمنية المناهضة لأمريكا، أمر صعب؛ لأَنَّه يعني في الحقيقة تتبع سيرة الحياة السياسية للشهيد لحظة بلحظة، والمقصد من هذا الاستعراض الموجز هو الاقتراب قليلاً من التحول الجذري الذي صنعه الشهيدُ في أبجديات السياسة اليمنية، ورؤية الفاعلية الكبيرة الذي أثبتتها سياسة المناهضة لأمريكا والتي لولاها لكان هناك الكثير من الفراغات في مسار الصمود وربما كان العدوّ ليحقّق الكثير من أهدافه.
لقد صنع الشهيدُ الصمَّـاد بدايةً تاريخية جديدة للسياسة اليمنية الرسمية البعيدة عن الارتهان لإرادَة واشنطن، وأثبت بنشاطه العملي وقيادته المتميزة للدولة أن هذه السياسة هي الطريق الأمثل والوحيد للاستقلال والانتصار على أي تَحَــدٍّ.