// مقالات // د. أسماء الشهاري
الشهداء.. هم من لان لهُم الحديد وتقهقر أمام قوتهم كُلَّ جبّارٍ عنيد.. لأنهم استمدوا قوتهم من قوة الله وبطشوا بأعدائهم ببطش الله الشديد..
وعن قمرِ الشهداءِ المداني يحلو الكلام.. ولديَ المزيد..
كيف أكتب.؟، وكيف لا أكتب.؟
قد تبدو هذه الأسئلة غريبة، لكن الأغرب أن تكون الإجابة عليها هي الأصعب..
نعم.. فليس من السهولة بمكان أن تكتب على من كان حضوره أكبر من كل الأماكن وغيابه لم يتوقف عنده زمان لأنه لا يزال في كل الأزمان حاضرا وكائنا.!
هامَ الشعراء في وصفه وما بلغوه، وتحدث الكُتاب عنه فما أوفوه.!
هكذا هم في حياتهم عظماء تَهيمُ بهمُ العقول وتحتار فيهم الأفهام عن فهم رُقي نفسياتهم وعلو همتهم، وبعد رحيلهم إلى عالم البقاء تسافرُ معهم الأرواح علّها تقتبسُ من أنوار أطيافهم بصيصاً من أمل ونور تهتدي به وهي تحاول أن تفسرُ كنه البقاء بعدهم.!
حتى الكلمات تتوارى خجلاً عندما يكونون هم محور الحديث، والشمس تكادُ أن تسقط كِسفاً عندما تذكر أنوار طلعتهم..
ويبقى القلم وحده عاجزاً يكتب على استحياء وهو يتذكر هيبة ذكراهم وابتسامة مُحياهم..
ولكن.. كيف لهُ ألّا يكتُب، إن كانت الكتابة أقل ما قد يُوهب لمن خلّدَ الرحمن ذكراهم.. و إلى جوار أنبيائه وأحبائه اصطفاهم، وقال سبحانه للموت_ من كل العالمين انساهم.. فهؤلاء من باعوا أرواحهم في سبيل محبتي.. هم الأحياء في ضيافتي يتنعمون، وأبد الدهر لا يحزنون..ويوم يفزعُ الناس يكونوا هم الآمنون..
نعم..عنهم أتحدث وهل غير الشهداء في نعيم الخلد يستبشرون..
فالشهداء.. هم من لان لهُم الحديد وتقهقر أمام قوتهم كُلَّ جبّارٍ عنيد.. لأنهم استمدوا قوتهم من قوة الله وبطشوا بأعدائهم ببطش الله الشديد..
وعن قمرِ الشهداءِ المداني يحلو الكلام.. ولديَ المزيد..
قل لي يا سيدي الشهيد.. من ذا الذي رأى صورتك ولم يتوقف عندها.. في دهشةٍ وذهول..وأخذ يطالعها خُفيةً وقد تسللت إلى نفسه الرهبة أو حتى جُهرة أمام أعين الخصوم وهو يوقن أن هناك إنساناً غير عاديا وروحاً من زمنٍ آخر.. زمنٍ بعيد كانت على الأعداء ثورةٌ ونارا.. وللأحرارِ كانت ألف ألف عيد..
ربما لم تُتَح لنا الفرصة لرؤية المعارك والفتوحات العظيمة والكرامات التي جعلها الله على أيدي العظماء في زمن الأنبياء والأصفياء، ولكن من رحمته وحكمته أن جعلنا نراها في زمننا هذا على أيدي أولياءه والذين فيهم نفحات ربانية وروحانية من أولئك الأتقياء والتي اكتسبوها من صدق إيمانهم وحبهم واتبعاهم لهم وسيرهم على خطاهم حتى أصبحوا أسوة يُقتدى بهم في كل نواحي حياتهم..
عندما نتحدث عن الشهيد القائد الخالد اللواء طه حسن إسماعيل المداني فنحن نتحدث عن مسيرة جهادية وإيمانية طويلة واستثنائية من التفاني والعطاء، ومن البذل والفداء..ضرب فيها الشهيد أروع الأمثلة وسطر فيها أعظم الملاحم..
كان للشهيد أبو حسن شرف الالتحاق بالمسيرة المباركة في بداياتها بل وكان ممن شيّدوا بنيانها وأرسوا دعائمها.. فكيف لمن هو مثله ببصيرته الثاقبة ووعيه العالي وإيمانه القوي أن يتلكأ هنيهه أو أن يتردد قيد أنمله..بل على العكس كان على يده وقلة من المؤمنين الصابرين الصادقين حينها دورٌ أساسي وكبير لأن ينفذ ذلك النور وأن يتوهجّ أكثر حتى يصل سناه إلى كل مكانٍ في هذا الكون فما يحجب عينيه عنه إلا جاحدٌ ومعاند..
أعرف أني أُبحِر في محيطٍ عميق لا أرى لهُ قعراً ولا لطرفه نهاية لكني قد جئتُ بدلوي الصغير علّي أغترف منه ولو شيئاً يسيرا، فالقليل من العظيم كثير..
مناقبٌ وسجايا..مواقفٌ وحكم.. دروسٌ وعبر هي كثيرة جداً كعظمة الشهيد ومواقفه الكبيرة المشرفة الممتدة طيلة أربعة عشر عاماً والتي تخلده بطلاً استثنائياً بين أسماء الخالدين..
في الحقيقة أننا لا نرثي “طه” ولكننا نرثي أنفسنا بفقدانه، وهو ألمٌ كبير ومصابٌ جلل، فإذا كانت الجبال قد تصدّعت من مصيبة فقده وهي من كانت قد اعتادت على شموخ هامته التي تنافسها وتفوقها في الارتفاع، فكيف لقلوبنا الصغيرة أن تنكر أو أن تكابر حقيقة الوجع العميق الذي ألّم بها والفراغ الكبير الذي خلفه رحيله في أرواحنا وأنفسنا.. ولكن العزاء لنا هو الوفاء له ولإخوانه من الشهداء العظماء والسير على دربهم ورفع راية الفداء حتى يقضي الله أمره وينجز وعده..
إننا ونحن نتحدث عن عملاق من عمالقة المسيرة المباركة تفوق في كل الجوانب الإيمانية والميدانية.. قائد كان عظيماً في نفسيته وشخصيته.. كبيراً في أهدافه وطموحه.. قوياً في عزيمته وبأسه.. وفوق كل ذلك فقد كان هامةً علميةً عسكرية واستخباراتية وصاحب قدرات ذهنية غزيرة ولذلك استطاع التأثير في الآخرين بذلك الشكل وإحداث تغييرات عظيمة في الأحداث والوقائع من حوله..وتسجيل رصيد هائل من الإنجازات والانتصارات التي قلّ نظيرها..ومع هذا كلّه فقد كان دمث الأخلاق.. لين الطباع.. سمحاً حنوناً ومتواضعاً.. مما جعل كثيرين يعتبرونه أحجّيةً مُحيّرة.. لكن ما يعرفونه يقيناً أنه ينبوع أمان وفيّض حنان..وسرٌ من أسرار الرحمن التي يُجري بها التغيير وهي سنته التي لا تبديل لها ولا تحويل..
إن الروحية الجهادية العظيمة التي كان يحملها أبو حسن نابعة من إيمانه بمشروع عظيم ورسالة عادلة وأهداف سامية ومُثل عليا في مقارعة الظلم والطواغيت المتمثلة في الطغاة والمستكبرين والذين يتحركون ضمن مشروع الشيطان الأكبر وتحقيق أهدافه وأجنداته في المنطقة ومن أجل مناهضة مشاريعه وكل مكائده وجرائمه ومخططاته، والانتصار للمبدأ والقضية الحقّة.
وكما هو متعارف عليه عبر التاريخ وفي القرآن أن الربِّيون يكونون هم السباقون في ميادين العمل ويتعرضون للابتلاءات التي تمحص صدقهم ويقدمون التضحيات التي بها تنتصر قضاياهم، ولعل الشهيد اللواء طه المداني هو أحدهم فقد تعرض للسجن مرتين وجرح أكثر من مرة.. وهو يبذل قصارى جهده وكل ما يستطيع في سبيل إيصال قضيته العادلة والانتصار لها وتغيير الواقع المُرّ.
كان في السجن قبل أن يصدر العفو العام لأنصار الله في ذلك الوقت قبيل الحرب الرابعة، خرج منه ابو حسن ليتزوج بأخت صاحبه والتي خطبها له وهما لا يزالان في السجن، لم يكن ابوحسن المجاهد مهتما بمظاهر العرس وبهرجه بقدر اهتمامه بالتجهيز لأي حرب أخبره حدسه المؤمن بقرب اندلاعها وهكذا ما إن اندلعت الحرب الرابعة بعد أيام قلائل من زواجه ومن خروجه من السجن حتى هبَّ إليها مُلبياً ومكبراً وغير مسوفاً ولا مُتأخِراِ حتى ولو كان لا يزال تزوج قريباً وهو من قد جعل الجهاد في سبيل الله هو أولى أولوياته ومقدماً على سعادته وحياته لأنه هو الحياة في نظره..
جرح الشهيد العظيم ثلاث مرات خلال الحرب الرابعة، وكان قد جرح قبل ذلك عندما انطلق ذات مرة رافعا شعار الحق في وجه الهيمنة والاستكبار الأمريكي في الجامع الكبير عقب هجمتها الشرسة على المنطقة في أحداث 2001 وقد انطلق عن دراية و وعي بضرورة التحرك في مواجهة هذا الخطر المحدق بالأمة والمنطقة من أجل التصدي له والحدّ من تداعياته وآثاره، وقد هاجمتهم الشرطة خلال ذلك بلباس مدني فتجمعوا عليهم وأوقعوهم على الأرض وهم يضربونهم فتدخل في محاولة لإبعادهم من أحد أصدقائه الذين كانوا يضربونه بشدة فتعرض لطعنةٍ في عنقه بالقرب من الوريد، وكان أيضا قد تعرض للسجن للمرة الثانية عندما انطلق ليكبر في الجامع الكبير وكانت هي المرة الثانية التي يكبر فيها، وحينها لم يكن متبقٍ له سوى اختبار أو اثنين حتى يكمل دراسته في الجامعة وكان يدرس شريعة وقانون في سنته الرابعة، حيث كان مهتما كثيرا بإنهاء ما تبقى له من مواد لكن مهامه الكثيرة ومسئويلاته العظيمة حالت دون ذلك وآخرها هو انطلاقه كقائد ميداني وعسكري في مواجهة العدوان السعودي الأمريكي.
كثير العمل كثير الذكر لله قليل النوم كان ذاك هو القائد الميداني الفذ اللواء طه المداني والذي تفوق عسكرياً وأمنياً، فكما كانت له الصولات والجولات في الميادين وعلى أيديه تُصدُّ الزحوف وتقتحم المواقع وتُصنع المعجزات بتأييد الله له وبقوة بأسه وشكيمته وحرفيته القتالية العالية، فقد تفوق وتميز أيضاً في الجانب الأمني، وكان له الفضل في تكوين الجهاز الأمني لأنصار الله وتطويره والوصول به إلى ذلك المستوى حتى استحق بجدارة أن يقدم خبرته الطويلة إلى ثورة 21 من سبتمبر 2014 والتي انبثقت منها اللجان الشعبية وهي بذلك المستوى من النباهة وعلى درجة عالية من الإلتزام بالأخلاق القرآنية والقيم الإنسانية لتكون هي والقائد العظيم ابوحسن رافداً كبيراً وقوياً لأجهزة الدولة، والتي أوصلها إلى ذلك المستوى من الإنجاز والتي تقف أمامها الأجهزة الدولية الإستخباراتية عاجزة.
حتى أن الفضل بعد الله يعود لأبو حسن ورفاقه فيما تنعم به العديد من محافظات الجمهورية وخاصة في المناطق الشمالية من الأمن والأمان وقد قدم الشهيد أنموذجاً حيا وعملياً لمنظومة أمنية وقرآنية وكيف تستطيع الدول أن تحقق الاستكفاء الذاتي في الجانب الأمني دون اللجوء أو الحاجة إلى أحد،
وقد غير الشهيد القائد أبو حسن النظرة لرجل الأمن على أنه ذلك الغليظ قاسي القلب ليفيض أمناً وإيماناً على المجتمع وليكون شعار “الأمنيات لكم وليست عليكم ” هو ما سيبقى شاهداً على ما قدمه الشهيد في هذا الجانب والذي سيظل مدرسة عسكرية وأمنية شامخة للأجيال المتعاقبة.
استحق الشهيد ابو حسن بكل جدارة أن يكون:
مشرفاً للجان الامنية..ومستشارا لوزير الداخلية..وعضوا للجنة الامنية العليا..
وعلى الرغم من ذلك انطلق مجاهداً وقائداً في مقدمة الصفوف لينتصر لقضيته العادلة في التصدي للشيطان الأكبر ومواجهته مباشرة وعبر أياديه وجنوده فهو يرى أن المنصب الحقيقي الذي يليق به هو أن يكون فارساً مقداماً في ساحات الشرف والبطولة..وأخيراً ترجّلَ الفارس العظيم بعد مسيرة نضالية وجهادية طويلة حافلة بالبطولات والإنجازات والانتصارات وبعد أن نكّل بالأعداء ولقنهم أقوى الدروس التي لن ينسوها طيلة حياتهم، لينال الشرف والوسام الذي يليق بالعظماء أمثاله وهي المنحة الإلهية التي يستحقها من كان مثله..
جاءت التوجيهات بكتمان خبر استشهاد هذه الهامة الجهادية الشامخة في ميادين البطولة في حينها لأن ذلك كان يمثل خبراً مفرحاً للعدو الذي كان اسم طه المداني يمثل لهم هاجساً مخيفاً يؤرق منامهم ويقضّ مضاجعهم والذين لقبوه بـ”عقل المليشيا”، وكان خبر استشهاده سيسبب إحباطاً كبيراً في معنويات كل من عرفوه وخاصة المجاهدين الذين كانوا يستمدون من صموده وشجاعته وبأسه أجمل الآيات والمعاني.. وهكذا حتى جاء الإذن بالجهر بخبر استشهاده في الذكرى السنوية للشهيد وليكتشف العدو أن معلوماته الإستخباراتية لم تتمكن من معرفة استشهاد قائد عسكري وميداني بحجم طه المداني..
ولتكون دماؤه الطاهرة هي من تنير الطريق لكل الأحرار السائرين على درب الشهيد الخالد إلى مزيدٍ من التضحية والبذل حتى النصر والنصر..