العنصرية النجدية … وأزمة “شرعنة” الحكم السعودي
عمران نت/ 02 أبريل 2018م
محمد قستي
عنصران شرعنا حكم آل سعود، على الأقل في بيئته وحاضنته النجدية، التي تسيطر على الحكم بشكل مطلق رغم أقليتها. الأول: الحق التاريخي لآل سعود بالحكم، وهو حقّ مزعوم، خارج نجد على الأقل. فليس هناك من حق تاريخي لهم في أن يحكموا الجنوب او الشرق او الحجاز او غيرهما. ذلك أمرٌ مُدّعى. والثاني: الوهابية كأيديولوجية نجدية، شرعنت احتلال نجد للمناطق الأخرى، ثم شرعنت تهميش تلك المناطق والاستيلاء الكامل على السلطة واحتكارها، كما شرعنت بقاء حكم آل سعود مهما فعلوا، وحرمة الخروج عليهم، وتبرير كل أفعالهم. وهذا العنصر ايضاً ضعيف التأثير خارج نجد. فمن لا يؤمن بالوهابية وهم أكثرية المواطنين، لا تُعتبر الوهابية بنظره مشرعنة لحكم آل سعود، ولا يُقبل منها تغطيته دينياً، خصوصاً وأنها تكفّر معظم المواطنين، او على الأقل تتهمهم أكثريتهم بالشرك، ونقصان الدين! الحديث كان دائماً حول نجد، فمن يحكمها بنظر نخبتها، يحكم باقي مناطق المملكة المُسعودة، التي لا تعدو بنظرهم مسرحاً للعمليات، وتابعاً لا حقّ له في رفض السيطرة النجدية، ولا في حكم آل سعود، ولا المشاركة في الحكم، بل ليس لهم كثير حق ـ او حق متساوي مع النجدي ـ في منافع الدولة. الحكم شأن نجدي، والصراع الذي نشهده اليوم هو ـ في جوهره ـ صراع نجدي على السلطة. هذان العنصران: الحق التاريخي المزعوم، والأيديولوجية الوهابية التي تبرر الاحتلال للمناطق والاستئثار بالسلطة، قادا البلاد المسعودة الى أزمة حقيقية، حيث كان من الصعب استنبات حسّ وطني، أو ثقافة وطنية، أو هوية وطنية. لم يستثمر آل سعود في هذه الهوية الوطنية، لأنهم كانوا والنخبة النجدية الحاكمة، مشغولين بتدعيم الهوية النجدية، والثقافة النجدية، والحكم النجدي، وفرض الهوية النجدية: ثقافة ومذهباً وتراثاً على بقية المناطق، تحت طائلة التهميش، والحرمان من أبسط الحقوق (الخدمية) كمواطنين. الهوية القائمة حالياً، هي هوية نجدية بامتياز. بل ان ما يقال من أن هناك هوية سعودية، لا تعدو أن تكون في جوهرها وعناصرها الثقافية (هوية نجدية). وحتى الوهابية كمكوّن ثقافي أساسي للهوية النجدية/ المسعودة، لا يتم رفضها حتى من ملحدي نجد، كونها عامل ثقافي مهم في وحدة الوسط النجدي. مشكلة هؤلاء في قضية الالتزام بها كسلوك، وليس باعتبارها هوية جامعة لنجد، تساعد على تمييزهم ورفعهم دون بقية المواطنين غير المنتمين اليها. بناء على تلك الهوية، اصبح المواطنون المسعودون أقساماً: مواطنو درجة أولى، وثانية، وثالثة، وغيرها. او بتعبيرهم حسب كود الهاتف: (٠١ لنجد، ٠٢ للحجاز، ٠٣ للأحساء والقطيف، الى ان تصل الى ٠٧ للجنوب). وقد لعب الملوك السعوديون ـ خاصة فهد المشهور بتحلله ـ على زيادة السيطرة النجدية، فانتهج سياسة اكثر تطرفاً في (نجدنة) و(وَهْبَنةْ) الدولة، بقناعة راسخة من أن نجد المسيطرة تستدعي أمرين مرتبطين بشرعية الحكم داخل الوسط النجدي بالذات، وهما: الإلتصاق بالوهابية كأيديولوجيا موحدة للوسط النجدي؛ والحفاظ على وحدة العائلة النجدية المالكة التي فضلت الاحتباس في انتماءاتها النجدية. لهذا لم يكن بالإمكان طيلة التاريخ السعودي، ان تنمو ثقافة وطنية، او هوية وطنية. ولهذا لم يكن ايضاً بالإمكان استنبات مفاهيم المواطنة والمساواة وقبول التعددية. فهذا يعني عملياً: القضاء على الإستئثار النجدي المطلق بالحكم ومتعلقاته في كل المجالات، بما يعنيه من تخلٍّ عن معظم السلطة والمواقع القيادية لصالح الأكثرية المُسعودة والمهمّشة في المناطق الأخرى. ولهذا السبب ايضاً، أصبحت السعودية اكثر من أية دولة شرق أوسطية أخرى، عرضة للتقسيم، ليس فقط لكونها كياناً سياسياً حديث عهد، وإنما أيضاً لأن الإنشقاقات الاجتماعية والمناطقية وغيرها حادّة جداً، وسبب حدّيتها انها استخدمت ـ نجدياً ـ كمبرر لاحتكار السلطة. حيث يقوم التهميش على مبررات: هذا صوفي او شيعي او حجازي او من تلك القبيلة او المنطقة غير المرضي عنها. واستُخدمت الأيديولوجيا الوهابية النجدية (تسمّى الوهابية بالدعوة النجدية) في شق النسيج الاجتماعي اكثر فأكثر، كونها الأداة الأكثر جاهزية والأشد تأثيراً في تبرير الاحتكار تحت مسميات: كيف نجعل المسلمين كالمجرمين؟! كيف يكون الصوفي والشيعي والإسماعيلي المشرك مسؤولاً في هذا الجهاز او ذاك؟ وفي ذات السياق، كانت النخبة النجدية ـ غير المتديّنة ـ والتي تطبق بنفسها إجراء هذا التمييز بين المواطنين، وبين القبائل، وبين المناطق، وبين المذاهب، تتذرّع بما تفرضه عليها الوهابية ورموزها؛ ولكنها في حقيقة الأمر هي التي تستدرج رجال المؤسسة الوهابية لاستصدار الفتاوى التي تؤيد الطغيان النجدي العنصري والطائفي، بغية استمرار احتكار الدولة ومنافعها لأقليّة تظنّ انها حازت على الحق في ذلك، كونها هي التي سيطرت بالقوة على المناطق الأخرى، وفرضت حكمها ومذهبها ورجالها وثقافتها وتراثها عليهم جميعاً. في منتصف التسعينات ال ميلادية الماضية، زار الأمير سلطان، وزير الدفاع آنئذ، والرجل الثالث في الدولة، منطقة القصيم، التي يأتي منها معظم المسؤولين، وصرح هناك علناً بأنه يفتخر بأن معظم مسؤولي الدولة يأتون من تلك المنطقة التي لا يتجاوز عدد سكانها السبعة بالمائة من مجمل سكان المملكة! كان يريد ان يقول للقصيميين: نحن نتفهم غضب المناطق الأخرى من الحكم السعودي ومعارضته، في حين أنكم أنتم الدولة والمنتفع الأساس منها، فلمَ يظهر منكم معارضون لآل سعود؟ خيبة الأمل زادت، فبعد سنوات قليلة، قال وزير الداخلية الأسبق الأمير نايف: انتظرنا المعارضة من الشيعة من الشرق، فظهر المعارضون من بيوتنا! الآن، في عهد محمد بن سلمان، هناك محاولة طفولية لإعادة انتاج (شرعية الحكم السعودي)، في عنصريها الأساسيين، من أجل ديمومة السلطة: في أيديولوجية السلطة، جرى التخلّي جزئياً عن الوهابية، وتهميشها، ولكن ليس الى حدّ القطيعة معها، فلازال النظام بحاجة اليها في قادم الإيام، إنْ في شرعنة سلوكه وسياساته الحالية سياسياً واجتماعياً، أو تحسّباً لأزمات مستقبلية قادمة. فخط العودة متاح، وهناك خشية من الأمراء من ان تصدق مقولة مشايخ الوهابية من أن حكم آل سعود لا يمكن ان يستمر بدون الأيديولوجيا الوهابية. في مسألة وحدة العائلة المالكة وحقها التاريخي المزعوم بحكم (كل مناطق الجزيرة العربية)! فهذه تضعضعت في المحيط النجدي بشكل خاص، بعد التفكك داخل العائلة المالكة، بسبب تحويل وراثة العرش من وضعها الأفقي الى العمودي (انتقال السلطة من الأب الى الإبن، وليس من الأخ الى أخيه). لهذا، فإن شرعية النظام السعودي اليوم هي أضعف مما كانت عليه في أي وقت مضى، إن في محيط نجد المهيمنة على السلطة، أو في إطار مناطق المملكة المُسَعْوَدة الأخرى. ومشكلة النظام في ظرفه الحالي، أنه غير قادر على تعويض هذا النقص في الشرعية بمنجز تنموي او اقتصادي او برفع مستوى معيشة المواطنين. على العكس من ذلك، فقد جاء الصراع على الحكم بين الأمراء، وتهميش المؤسسة الوهابية، والقمع، في ظرف اقتصادي سيء، خاصة وأن محمد بن سلمان رأى تغيير الهيكل الاقتصادي للدولة كاملاً في ذات الفترة، ونقصد تحويل الاقتصاد (الريعي) الى اقتصاد (ضرائبي). وهذا بحدّ ذاته، يجفف ـ دون أدنى شك ـ منابع شرعية النظام السعودي حتى في أكثر المناطق النجدية ولاءً واخلاصاً. السؤال الملحّ اليوم لدى الملك سلمان وإبنه هو: كيف يمكن تعزيز شرعية الحكم بغير سلطان العنف والدموية وفرق الإمن والاعتقال؟ ذلك أن سلاح القمع والإخضاع القسري، له عمرٌ محدود، بل ـ الأرجح ـ له انعكاس سلبي على شرعية في المدى الاستراتيجي. فبمقدار استخدام النظام للقمع ـ وهو قمعٌ عابر للمناطق والمذاهب كما هو واضح ـ تتآكل بقايا مشروعيته، وتحرّض أكثر فأكثر للخروج عليه ومعارضته، بل وتحفّز فئاتٍ لم تكن تفكر في الإعتراض على سلوك واحد من اتجاهين: الهجرة وهو أمرٌ مشهود سواء بين الطبقة الوسطى وأصحاب الكفاءات ورجال الأعمال؛ أو الاعتراض بالكلمة او اللسان، او السنان. والأرجح ان بيئة نجد، خاصة البيئة الوهابية، أقرب الى استيلاد نسخة جديدة مطوّرة من القاعدة وداعش. ما هو الحل لأزمة الشرعية؟! استشعر النظام ضعف الهوية الوطنية، التي أرادها كذلك، منذ منتصف التسعينيات الميلادية تقريباً. وبدأ بالحديث عن (التربية الوطنية) واستحدث منهجاً للطلاب بهذا الإسم، وصدرت قبل ذلك بضعة كتب في هذا الشأن. لكن من كتب تلك الكتب وأعدّ تلك المناهج، لا علاقة له بالوطنية، ولا يفهمها، وكلهم نجديون! فمن قعد على كرسي الطائفية والمناطقية ومارسها ولازال، أراد ان يجلس ويُنظّر في الوطنية، وهو غير قادر على العطاء فيها، او حتى فهمها. ولهذا جاءت تلك الكتب مناطقية طائفية أيضاً، خاصة وان بعض من كتب في هذا الحقل هم من المشايخ او من السلك الديني الوهابي، او من خريجي جامعات آل سعود الوهابية! والحديث هنا يتعدّى قضية المفاهيم واستزراعها، الى السلوك القائم في الدولة. اذ لا يمكن ان تقنع مواطناً يدرس المواد الدينية على ان زميله الجالس بجانه في الفصل الدراسي (مشرك او كافر او صلبي او من فئة أدنى لا يجوز حتى التجاوز معهم!) وفي نفس الوقت تقول ان الجميع متساوين. ولا يمكن الزعم بالمساواة والوطنية وأن مبادئ الحقوق والواجبات تطبق على الجميع، وان تراث المناطق كلها يجب احترامه، في حين ان ممارسات الحكم على الأرض على النقيض من ذلك تماماً. لم تغير المناهج الدراسية شيئاً، حتى ان الملك عبدالله خاطب بعض آباء الطلاب النجديين: علموا اولادكم الوطنية. والحقيقة انه هو نفسه لا يعلم معنى الوطنية سوى فهم سقيم يظنه محصوراً في الولاء للحكم السعودي، بحيث ان من يعارضه (ليس وطنياً)! اليوم حيث يبدو تغوّل الحكم، الذي يفرط في استعراض عضلاته، يكشف في ذات الوقت عن خواء داخلي، وعن قابلية شديدة للإنكسار، مهما تذرّع القوم بأن سلمان وإبنه رجلا حزم وعزم وإصلاح. في خضم الحديث عن النهج السعودي الجديد، هناك كثير ك لام عن احترام التعددية وحكم القانون ومحاربة الفساد وما أشبه. وهي أسلحة للإستخدام التكتيكي لمجابهة الخصم، في حين تطفح الجرائد المحلية بمقالات العنصرية والطائفية، ليس فقط ضد الاخر الخارجي، بل ضد مواطنين محليين. كما ان مواقع التواصل الاجتماعي التي يسيطر على اجوائها الجيوش الالكترونية الحكومية (الذباب الالكتروني) تقوم بشنّ حملات ممنهجة ضد الشيعة وضد الصوفية وضد الإسماعيلية وضد الزيدية، وضد الحجازيين وتصمهم بأنهم (طرش بحر ـ مجنّسين) وتطالب بسحب الجنسية مع كل من يختلف مع الحكم النجدي او له رأي لا يتطابق مع أولئك (الذباب)، حتى ان هؤلاء طالبوا بسحب الجنسية عن عضوات حجازيات في مجلس الشورى (المُعيَّنْ). اتسعت دائرة العنصرية ليس فقط ضد العاملين الأجانب، الذين يدفعون اليوم ثمن فشل الحكم السعودية في إدارة الاقتصاد، بل وأيضاً ضد المواطنين المحليين تحت شعارات: السعودية للسعوديين؛ لا للتجنيس؛ السعودية العظمى، وما أشبه! كأن النظام السعودي يريد أن يستنهض هوية سعودية غير موجودة في الأساس. وكأن محمد بن سلمان يبحث عن كبش فداء لسياساته الفاشلة. وكل ذلك يُغطّى بشعارات القوة والنهضة والإصلاح والتطور وغيرها. لكن المشكلة هي ان هذا الإستنهاض لما يمكن تسميته بالوطنية السعودية، او القومية السعودية (Saudi Nationalism)، للتعويض عن شرعية النظام المتآكلة، لا أساس ثقافي له، ولا مناخ يساعد في نموّه، ولا جدّيّة في تأمين متطلبات نموّه، ولا غرض شريف يقف وراءه، ولا أدوات صالحة (اشخاص او سياسات وبرامج) تتولى رعايته؛ ولهذا فالدعوة الفاشية لوطنية سعودية مكتوب عليها الفشل، ولا يمكن ان تخدم أغراض آل سعود حتى على المدى القريب. كيف يمكن لروح عنصرية فاشية ـ نجدية في الأساس ـ مخصصة ضد أكثرية المواطنين، أن تكون (وطنية)؟. وكيف يكتب أحدهم مقالاً عن هؤلاء العنصريين مبرراً تحت عنوان: (وطنيون عنصريون)؟ فمنذ متى اصبح العنصري ضد مواطنين مثله، يفترض مساواته بهم، فيتولى التحريض عليهم، وانتزاع حقوقهم الأولية، كيف يصبح مثل هذا وطنياً؟ ولمَ لا يُعاقب، لولا انه يقوم بتنفيذ أجندة آل سعود العنصرية؟! النظام السعودي ـ في الوقت الحالي ـ لا تسعفه ثقافته ولا إمكانياته من تجديد منابع شرعيته؛ فلا الوهابية (وحتى في عزّ قوتها) كانت قادرة على شرعنة النظام خارج محيطه النجدي الأقلوي؛ ولا العائلة المالكة موحدة اليوم، ولا المواطنين يقبلون منطق آل سعود بأن مناطقهم (ملك لآباء وأجداد آل سعود)، ولا ثقافة آل سعود والنخبة النجدية الحاكمة تقبل بهوية وثقافة وانتماء وطني يسمو على النجدية والوهابية وذيلهما (السعودية).. وفوق هذا، لا يستطيع النظام، الآن وفي المدى المنظور أيضاً، ان يحقق منجزاً تنموياً يعوّض نقص الشرعية او المشروعية، فكل المؤشرات تفيد بصعوبات معيشية متتالية. مصدر الشرعية هو الشعب، وليس نجد. ومصدر الشرعية هو القبول الطوعي بالحكم، وليس تحت وطأة (السيف الأملح)، فهذا مصيره الى الكسر. ومصدر الشرعية هو ثقافة مدنية، لا وهابية تكفيرية متغوّلة، ولا احتكار نجدي للسلطة ومنافعها. هذه أمور لا تقبل بها النخبة النجدية، ولا العائلة النجدية الحاكمة. ولهذا فشرعية النظام تُنتقص حتى في حريمه النجدي، وسيكون على النظام مواجهة العواقب: عدم استقرار، وعنف، وفشل على كل الجبهات