أبناء الغياب
عمران نت / كتابات/
يا لهول الفاجعة وأنا أتأملُ وطناً مزدحماً بغياب مواطنيه , على أُهبة الرحيل إلى المجهول , يلملم حقائبه لسفرٍ طارئ , وتستعدُ غربةٌ لاحتضانه , ينتابني شعورٌ بالفقدان ,,,, تماماً كما ينتابه فكلانا سيفتقد الآخر .
ذلك الطاعنُ في الألم كانت عيناي تدمعان وهو يلوِّحُ لي .
كان أبناؤه – أبناء الغياب- يرتدون همومهم وينتعلون بؤس أبيهم ذلك الوطنُ / الجمع والذي كان اسمهُ (نحنُ) هاهم ينفضُّون عنه ويتركونه كيتيمٍ لم يجد من يكفله ,
وهاهو يتخلى عنهم كما تترك أنثى الدب صغارها , إنه بعد هذا يعود (هو) مجرداً من أي صيغة جمع جمعتنا تحت سقفهِ ذات يوم.
ها هم أبناء الغياب يغادرون جسدهم ليسكنوا أجساداً أخرى , سيديرون له ظهورهم ويقولون: (لقد أصبح غيرَ قادرٍ على استيعابنا) ! , لقد ضاق بهم ذرعا برغم رحابته , وسيقول عنهم إنهم تنكروا له وهجروه , ليس إلا الموت قادرٌ على استيعابهم جميعا أما الحياة فما بوسعها إلا أن تبعثرهم – كرمادٍ – في المنافي .
هو إذاً سيعيش وحيدا ً مفرداً وهكذا أرادوا له , وهم سيعيشون وحيدين مشردين وهكذا أراد لهم!
أَهو القصاصُ إذاً ؟
لكنه قصاصٌ تجهلُ فيه من البادئ حتى تقول له بنبرة تشفٍ يخنقها الحزن : ( والبادي أظلم ) !
وأنا أنظرُ إليهم بعين الشفقة وددت لو استطعت أن أمرر أناملي على رؤوسهم لكان لي بكل شعرةٍ أجرا إنهم يتامى الأب والأم في آن ويستحقون الرحمة ولكن ماذا عنه؟ وماذا عن يُتمِ الأبناء؟ , لم يتحدث أحدٌ من قبل ولم يترجم لنا حزن يتامى الأبناء كي نشعر به ونربت على كتفه ونمسح على رأسه ! أو نهديه إبناً ولو بالتبني بعد أن تركوه يحتسي مرارة عجزه ولم يصل بهم برهم حتى ليودعوه دار المسنين , لقد تركوه على مرمى مقبرة .
اُنظر إليهم وهم ينتظرون الرحيل وينتظرهم وطن !
يودِّعون وطناً ليصافحوا غربة !
يتجرعون غربتهم بصبر اليمني المتمرس , الطاعن في الصبر فماذا سيعقب صبرهم؟
كان لهم موعدٌ مع عتمة كل جمعة ليستفيقوا على صباح كل سبتٍ حافلٍ باستمارات الرحيل
كم موعداً أخلفوه ؟ فما بالهم لا يخلفون مع الغياب موعدا ؟!
كم خراباً سيخلفون هنا ؟ حتى يبنوا هناك !
هاهم يفسحون المجال لأشباح الظلام الذين أغرقوه حتى أُذنيه بل حتى يافوخهِ بفراغهم وخوائهم
يطعمونه جماجم أبنائه ويسقون أشجار حزنهِ بدمائهم وكأنهم يغذونه بفقدهم فيثمر جوعه يباساً ومحلا , هؤلاء لا يبدعون إلا الموت ولا يشيدون إلا المقابر , يبذرون الحقد والجهل في كل طريقٍ يمرون به , أوصدوا كلَّ شُبَّاكٍ مطلٍّ على فسحة أمل , كسروا كلَّ حصانٍ حتى قبل أن يستعد للصهيل , يتقاتلون لأجل أتفهِ فكرةٍ عَبَرَتْ ويلقبون أنفسهم وبكل زهو ( المتقاتلون في الله ) وليس ثمة إلا الشيطانُ يجري في دمائهم ويفجِّرُ أحقادهم ويلغِّمُ تحركاتهم بينما تتبرأُ كلُّ الأديانِ من بقع الدمِّ البريء على مخالب وحشيتهم وأنيابِ ضلالهم , سيقتلونه في الأخير دفعةً واحدة بعد أن ظلُّوا يقاتلونه بالتقسيط وسيلقون بجثتهِ في النهرِ الأسودِ الذي هم فيه غارقون وسيقولون وسيقول أولئك وسيقول عند احتضاره فمن ستصدقون؟ ولمن ستسمعون؟ مادمتم تمتطون رياح السفر وتحملون تذكرة غياب على مرأىً من يتيمٍ يحتضر كانت عيناي تدمعان وهو يلوِّحُ لي .