ابن تيمية بين مشيخة الإسلام وإمامة الجماعات الإرهابية
عمران نت / 20 يناير 2018م
بقلم /صالح البلوشي
عرفت ابن تيمية الفقيه الحنبلي الشهير في فترة مبكرة من حياتي، من خلال بعض الصحف والمجلات الإسلامية التي كانت تصدر في تلك الفترة وكنت من المداومين على متابعتها وقراءتها، أذكر منها جريدة “المسلمون” السعودية التي توقفت عن الصدور قبل عدة سنوات ومجلة “المجتمع” الكويتية وغيرها، التي كانت تعج بالمقالات التبجيلية لابن تيمية واصفة إياه بألقاب تفخيمية مثل “شيخ الإسلام” و “إمام المجاهدين” و “مجدد الإسلام” وغيرها، ولذلك لم يكن عجيبا أن تبدأ رحلتي في عالم القراءة بكتاب “الإيمان” لأبن تيمية الذي يعتبر أول كتاب أقوم بإقتنائه ولا زلت أحتفظ به إلى اليوم. بعد قراءات متواصلة لفكر هذا الفقيه من خلال كتبه ورسائله وقع بيدي كتاب “الفريضة الغائبة” لأحد القياديين في حركة الجهاد بمصر وهو محمد عبدالسلام فرج، الذي كان أحد المتهمين بقتل الرئيس المصري الأسبق أنور السادات وأعدم فيما بعد، أثار انتباهي في الكتاب نصوص كانت غائبة عني في فكر ابن تيمية تتعلق بالتكفير والخروج على الحكومات، مما فتح الباب واسعا أمامي للتعمق أكثر في فقه الرجل وخاصة الجانب السياسي منه، حتى حصلت على كتاب آخر لجهيمان العتيبي الذي قاد عملية احتلال الحرم المكي في مطلع سنة 1400 للهجرة، والكتاب يحتوي على 15 رسالة جلها اعتمدت على آراء ابن تيمية في التكفير والخروج على الحكومات أيضا، مما أثار لدي الأسئلة حول حقيقة منهج التكفير لدى ابن تيمية، وموقف العلماء المعاصرين له حول آرائه في المسائل الدينية والسياسية المختلفة، وكان أول صدمة لي عندما اكتشفت أن اغلب علماء عصره كانوا من المعارضين له، بل وصرح بعضهم علنا بتضليله، فقد نقل ابن حجر العسقلاني الشافعي في كتابه “الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة” اتهام بعض المعاصرين له بالنفاق لأقوال صدرت منه بحق علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة، وأما الحافظ تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي فقد اتهمه بنقض دعائم الإسلام وذلك في كتابه “الدرة المضيئة في الرد على ابن تيمية”، بينما رد عليه الحافظ تاج الدين السبكي في كتابه “شفاء السقام في زيارة خير الأنام”، ومن العلماء الذين ردوا على ابن تيمية أيضا الفقيه أبو بكر الحصيني الدمشقي الشافعي وقال عنه أنه يتبع المتشابه ويبتغي الفتن وذلك في كتابه “شبه من شبه وتمرد” ، وأما الفقيه الشافعي ابن حجر الهيثمي فقد حذر المسلمين من قراءة كتبه ووصفه بالضال المضل في كتابه “الفتاوى الحديثية”، وللإمام الذهبي الذي ينقل عنه الثناء على ابن تيمية رسالة صغيرة مشهورة بعنوان “الرسالة الذهبية” أرسلها إلى ابن تيمية يحذره فيه من مخالفة العلماء والتطاول عليهم جاء في مقدمتها “إلى كم ترى القذاة في عين أخيك وتنسى الجذع في عينك؟ إلى كم تمدح نفسك وشقاشقك وعبارتك وتذم العلماء وتتبع عورات الناس؟…”. أكتفي هنا بما قاله علماء أهل السنة الكبار في ابن تيمية وهو رد على بعض الذين يدلسون على القراء بزعمهم أن علماء المسلمين أجمعوا على الثناء على هذا الفقيه، فإن الردود على ابن تيمية وآرائه وأفكاره تجاوزت المئات من جميع المدارس الإسلامية، ومع ذلك لا يزال هناك من يطلق عليه لقب “شيخ الإسلام”، فهل الإسلام بحاجة إلى شيخ يكون وصيا عليه ومتحدثا باسمه؟ أم الجميع بحاجة إلى الإسلام وإلى أحكامه الربانية وأخلاقه السامية التي ترفض التكفير والتضليل والتفسيق تحت أي عنوان كان؟
إن قراءة كتب ابن تيمية برؤية نقدية بعيدا عن الكتابات التبجيلية تكشف عن الجانب التكفيري لهذا الفقيه، فقد كان ابن تيمية من أبرز المنظرين لمنهج التكفير في الفكر الإسلامي، ويعترف أحد علماء السلفية المعاصرين وهو الدكتور عبد المجيد بن سالم المشعبي في كتابه “منهج ابن تيمية في التكفير” تكفيره للفلاسفة والشيعة والعلويين والإسماعيلية والقدرية، بل أن ابن تيمية تجاوز في كثير من فتاواه مرحلة تكفير المذاهب الأخرى إلى الدعوة لقتالهم، فقد قال عن العلويين بأنهم “أكفر من اليهود والنصارى بل وأكفر من كثير من المشركين وضررهم على امة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل كفار التتار والفرنج وغيرهم”، وهذه الفتوى المشئومة هي التي اعتمدت عليها الجماعات التكفيرية المتطرفة كجبهة النصرة وداعش وغيرها في الدخول إلى سورية، وذلك لقتال العلويين وليس نشرا للديمقراطية والحرية في هذا البلد العربي، وهي التي مهدت لظهور كتب ومقالات تكفيرية تدعو صراحة لقتل العلويين مثل مقال “لا تشاور أحدا في قتل العلويين” للشيخ السلفي أبو عبيدة عبد الله العدم، بل أن ابن تيمية كان يكفر الآخرين حتى في القضايا الخلافية التي تحتمل الاجتهاد، مثل قوله في مجموع الفتاوى (6 / 468) “الذي عليه جمهور السلف أن من جحد رؤية الله في الآخرة فهو كافر”، وقوله أيضا الفتاوى (5 / 391) “من أنكر أن الله استوى فوق سبع سماواته فهو كافر حلال الدم يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه والقي على بعض المزابل” ولا يخفى إن هذا الاعتقاد الذي أفتى ابن تيمية بتكفير القائلين به هو اعتقاد جميع المدارس الكلامية الإسلامية اليوم باستثناء السلفية. هذا التطرف في التكفير وإقصاء الرأي الآخر هل نستطيع وصفه أنه يمثل الاعتدال الإسلامي أو المنهج الوسطي في الإسلام؟
يرجع كثير من الباحثين المعاصرين الآراء الحدية لابن تيمية إلى عوامل متعددة، منها البيئة الصحراوية الجافة التي عاش فيها وهي حران التي يصفها الرحالة ابن جبير بقوله “ولا تزال تتقد بلفح الهجير ساحاته وأرجاؤه ولا تجد فيها مقيلا، ولا تتنفس فيها إلا نفسا ثقيلا، قد نبذ بالعراء، ووضع في الصحراء فعدم رونق الحضارة، وتعرت أعطافه من ملابس النضارة”، إضافة إلى انتمائه إلى المذهب الحنبلي المعروف بالتشدد، ولذلك فلا عجب أن يتصف هذا الفقيه الحنبلي بالحدة في الطبع والغلظة في التعامل مع أصحاب الآراء الأخرى.
إن قراءة نسق العقل الجهادي (الدموي) المعاصر للتنظيمات الإسلامية المتطرفة كالقاعدة وداعش وجبهة النصرة وغيرها، يجد إنها تتجسد في النظام اللاهوتي القرووسطي المنبثق من فتاوى ابن تيمية، ولذلك فإن معالجة التطرف الديني تقتضي العودة إلى جذرالمشكلة وإخضاعها لمشرحة النقد والتفكيك