في اليمن …قتل العدوان كل شيء إلا القدس
عمران نت/ 11 ديسمبر 2017م
الوقت التحليلي
لم تكن يوماً العروبة مشروطة ببذخ ومال، أو استقرار وأمان؛ هكذا قال اليمنيون وهم يضمدون جراحهم ليسرقوا من وقتهم ما يكفي للتضامن مع منارة الإسلام وزهرة المدائن.
القدس، الأقصى، أولى القبلتين، ثالث الحرمين؛ تعددت الأسماء والحال واحد. إسمٌ لجغرافيا لها قدسيتها، وعاصمة اختزلت القومية العربية في جوهرها، فصارت “ليلى” لأكثر من “قيس” يتربع على عرش نظام عربي، فلا هو وصلها، ولا هي سلمت من لغو قصائده وخطبه. أضحت الأنظمة الخليجية وبعض الحكومات العربية شاشات مسطحة يديرها ريموت كنترول من زاوية عالمية بعيدة؛ وضعت أكثر من خارطة طريق، والزمت كل نظام بتنفيذ جزء منه مقابل الحفاظ على منصبه في السلطة التي لا تمثل الجماهير وأحلامهم وقوميتهم. وصارت قضية الأقصى القناع الأبرز الذي يتنكر به حكام العرب لكسب تأييد شعوبهم المغلوبة على أمرها، وورقة الدين والقومية التي يتشدقون بها، ويجهزون على خصومهم تحت سقف الدفاع عنها ونصرتها.
يوم القدس في صنعاء
قبل أشهر أحيت جماهير اليمن “يوم القدس العالمي”، فامتلأ الكون عويلاً وصراخاً على مثل هذه البدعة المشينة والخطيرة، وشن الإعلام السعودي حملة شعواء على هذه الفعالية ومنفذيها، زاعماً أنها عادة دخيلة إيرانية صرفة لا تمت للعرب والمسلمين بصلة، بل وتحمل في طياتها أجندة مبطنة لا تخدم الإسلام. هذه الأبواق العربية التي تمثل صفة انظمتها ليست بحاجة لتؤكد للشارع العربي تنصلها عن الأقصى، فالكل يعرف تطبيعها العلني مع الكيان الصهيوني، وحجم متانة العلاقات والصفقات وشراكة الأهداف والغايات، لكن ما يحزننا هو كيف أنها جعلت من تنوع الايديولوجيا والمصالح أرضية للصراع والنزاع، وجدل يمس عقائدنا وقضايانا الإسلامية والقومية بناء على دوافع سياسية تارة، وكيدية شخصية تارة أخرى.
مسيرات من رحم الموت
رغم الحصار والدمار، ومشاهد الموت والخراب خرج اليمنيون في مسيرات ومظاهرات عدة تضامناً مع الشعب الفلسطيني وتأكيداً على رفضهم لقرار تهويد القدس، فخرجت في مدينة صعدة شمال اليمن، مسيرة جماهيرية حاشدة رغم قصف طيران العدوان السعودي الأمريكي وارتكابه جريمتين راح ضحيتها 23 شهيداً. وفي صنعاء العروبة والتأريخ وبعد إسبوع ساخن من حرب وأد الفتنة الدامية، خرج اليمنيون من انقاض المنازل وتشكيلات المتارس، مؤجلين دفن شهدائهم وزيارة جرحاهم والاطمئنان على ممتلكاتهم إلى ما بعد التضامن مع القدس الشريف والتنديد بالقرار الأمريكي الأخير. حيث يؤكد اليمنيون أن القدس هي قضيتهم الأولى ولها كل الأولويات، وفدائها بالروح والمال كان ولا زال ثابتاً دينياً ووطنياً وقومياً. وفي دمار شمال اليمن احتشدت الجماهير الغاضبة وسط المدينة رافعين لافتات التنديد والرفض للقرار الأمريكي الصهيوني، معبرين عن استعدادهم للجهاد حتى إستعادة الأراضي الفلسطينية المحتلة وتطهير القدس من دنس الصهاينة. وشهدت كل من محافظات حجة والمحويت والبيضاء والحديدة وعمران مسيرات حاشدة جابت شوارع المدن تضامناً مع الشعب الفلسطيني وتأكيداً على أن القضية الفلسطينية هي القضية الأم لكل العرب والمسلمين.
القدس في نفوس الجيل
وفي إطار التضامن الواسع مع القدس عاصمة فلسطين، خصصت جميع المدارس اليمنية فقرات إذاعاتها المدرسية لتناول تطورات القضية الفلسطينية على ضوء القرار الأمريكي، بالإضافة إلى وقفات تضامنية يومية في ساحات المدارس، كما شهدت مدارس اليمن أنشطة ثقافية وفنية تضامناً مع القدس الشريف، وارتدى الطلاب العلم الفلسطيني بدلاً عن الزي المدرسي طيلة أيام التضامن. وشهدت بعض الكليات والمعاهد ندوات مختلفة قدمت فيها أوراق كشفت المخطط الأمريكي الصهيوني وتداعيات ذلك على مستقبل الأمة الإسلامية في ضوء الجمود العربي والغطرسة الخليجية..
منابر ومآذن
فيما كانت مآذن المساجد اليمنية تصدح بحناجر منابرها متناولة القضية الفلسطينية في خطبها؛ كانت خطبة الجمعة في الحرم المكي تتحدث عن بر الوالدين، وهذه صورة أخرى لمدى الوهن والذل الذي جثم على المقدسات الإسلامية بسبب من يختزلون الدين والعقيدة في توجهاتهم، ويفتون حسب هوى السلطان. سيشهد التأريخ حتماً ويكتب في صفحاته السوداء أن هناك قوم أدعوا العروبة والإسلام في الوقت الذي يهتكون فيه الأعراض ويدمرون الأوطان ويشردون اشقائهم تركيعاً وتجويعاً، ويرفدون خزانات اليهود بملايين الدولارات لوأد الأمة وإخماد ثورتها، ثم يتوجون كل هذه الفعال ببيع الأقصى لصهاينة العصر.
لا جديد
يرى اليمنيون أن هذه الخطوة الأمريكية غير غريبة ولا مفاجئة عليها وعلى سلوكها؛ فهي من الأساس شريكة أساسية في احتلال فلسطين وظلم الشعب الفلسطيني ومصادرة حقه في أرضه ومقدساته، وهي شريكة في سفك دمه، وهي التي تبنت الكيان الإسرائيلي وورثت كفالته بعد بريطانيا وقدمت له كل أشكال الدعم والمساندة، وهي راعية الإرهاب والإجرام، وهي بهذه الخطوة وهذا القرار تثبت من جديد عداوتها للإسلام والمسلمين وخطورتها على مقدساتهم وأرضهم وحقوقهم، وتؤكد أنها لا تحترم الأعراف ولا القوانين الدولية والإنسانية.
عزاء وحيد
بالرغم من خطورة القرار الأمريكي الأخير وتبعاته الوخيمة؛ إلا أن هناك حسنة وحيدة تحسب لهذا القرار، وهي مجيئه في وقت دقيق ليكشف خيانة بعض الأنظمة العربية كالنظام السعودي والإماراتي وغيرهم ممن انكشفوا للعامة وسقطت اقنعتهم بإسهامهم المباشر في خدمة أعداء الأمة وارتباطهم بالأجندة الأمريكية والإسرائيلية، ودورهم التخريبي والهدام، ويعد سكوتهم عن هذا القرار علامة رضا، ودليل واضح على ضلوعهم في صناعته، والتزامهم بتنفيذه.
عاصفة حزم غائبة
شهداء وجرحى في فلسطين الكرامة، ومآذن خرساء للقدس مع كل وقت للصلاة، ورآية الكيان الصهيوني وحدها من تتنفس أفياء قبة الصخرة بشموخ مفروض، وعاصفة الحزم لم تستنسخ بعد، وإعادة الأمل إعادة مشروطة لليمن فقط؛ فروادها متخصصون في تدمير البلدان وقتل الجيران، واستخدام الأسلحة المحرمة، واستدعاء أطياف العالم ليشاركوهم فصول الإبادة والتنكيل. لكن عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية فأن جيوشهم وطائراتهم واساطيلهم تصبح مجسمات ورقية تخاف من ظلها.
الين قلوباً وارق أفئدة
ليس بخافٍ أن أبناء اليمن يواجهون جبروت العالم وغطرسته بصدر عار، ويقدمون قوافل الشهداء بشكل يومي حتى الفوا ذلك وادمنوه، وصار جزءاً من تفاصيل حياتهم اليومية؛ ولذا لا يجدون ما يقدمونه لإخوانهم في فلسطين سوى الدعاء والتضامن والشد على أيديهم في مواصلة الكفاح حتى النصر، ولعل مسيراتهم المليونية الأخيرة التي احتضنتها صنعاء الصمود وبقية محافظات اليمن رسالة كافية لمن يشكك في انتمائهم لقضيتهم، واحساسهم بما تمر به الشعوب الإسلامية. ولعل الرسالة الأبرز كانت لقادة الأنظمة الخليجية والعربية والتي مفادها: هذه صنعاء التي استبحتم دماءها، ودعمتم قصفها وحصارها، هي اليوم أخر ما تبقى من عواصم الدنيا التي لا يزال القدس حياً يرزق في زواياها بشراً وحجراً وثقافة وفناً.