تفاصيلُ حادثة السفينة كورال سي وتهديد واشنطن بتحريك الأسطول السابع والقبض على جاسوس إسرائيلي بالساحل الغربي وقوات إسرائيلية في الجزر اليمنية
عمران نت – تقارير
*زيارةُ أول بعثة إسرائيلية للجزر جنوب البحر الأحمر واحتلَال جزيرة زُقَـــر والمطالَبة بتدويل بريم وتهديد القادة العسكريين الصهاينة باحتلَال منطقة باب المندب بشكل كامل (1966- 1972م) والخسائر الصهيونية جرّاء إغلاق المضيق في وجه الملاحة الإسرائيلية لمدة 60 يوماً أثناء حرب 1973م
*تفاصيلُ حادثة السفينة كورال سي وتهديد واشنطن بتحريك الأسطول السابع والقبض على جاسوس إسرائيلي في الساحل الغربي وموقفُ الجامعة العربية من محاولات إسرائيلية لاحتلَال جزر يمنية
قراءة تأريخية.. الكيانُ الصهيوني ومحاولةُ احتلَالِ الجُــزُر اليمنية والسيطرة على باب المندب
بقلم / عبدالله بن عامر
قد يستغربُ البعضُ من تناوُلِ قضيةٍ كقضية الأَهميّةِ الاستراتيجية لباب المندب بالنسبة للكيان الصهيوني، حيث يذهب البعض إلى القول إن الحديث عن الخطر الصهيوني في منطقة باب المندب عموماً وجنوب البحر الأحمر خصوصاً ليس إلا تهويل مفتعل فيما الحقائق التأريخية تشيرُ إلى غيرِ ذلك، فالأطماعُ الصهيونيةُ في اليمن تعودُ إلى أسبابٍ عدة أبرزُها موضعُ وموقعُ اليمن، حيث تطل على بحار ثلاثة وتشرف على مضيق يعد من أهم مناطق العبور البحرية على مستوى العالم، ناهيك عن الجزر اليمنية المنتشرة في البحرَين العربي والأحمر والتي تعتبر مشرفة على ممرات التجارة العالمية، ناهيك عن الثروة البحرية الكبيرة، سيما في البحر الأحمر.
ويعودُ الاهتمامُ الصهيوني بمنطقة جنوب البحر الأحمر نتيجةَ ارتباطها بميناء إيلات أعلى شمال البحر الأحمر ومنه تنطلقُ التجارة الصهيونية لتعبُرَ البحرَ الأحمرَ ومن ثم مضيق باب المندب سواءً تجارة الفوسفات والأسمنت، حيث عملت إسرائيل على تحويل مناطقَ إفريقية بأكملها إلى سوق للتجارة الإسرائيلية، وهو ما يتم عن طريق البحر الأحمر، إضافة إلى أن واردات الكيان الصهيوني تأتي عن طريق البحر الأحمر سواءً البترولية منها أَوْ المنتجات الأخرى؛ كون استخدام السفن التجارية الإسرائيلية أَوْ التي تتعامَلُ مع الكيان الصهيوني طريقاً آخرَ غيرَ طريق باب المندب (ونقصد هنا طريق الرجاء الصالح) سيكلّفُ ذلك الخزينة الإسرائيلية مبالغَ باهظة، حيث تحتاجُ السفنُ إلى الدوران حول قارة أفريقيا ومن ثم الوصول إلى مضيق طارق قبل عبور البحر الأبيض المتوسط وصولاً إلى فلسطين المحتلة، فيما الطريق المختصر لجميع السفن القادمة من الشرق يتمثّلُ في الوصول إلى البحر العربي ومن ثم خليج عدن والعبور عبر باب المندب ومن ثم البحر الأحمر وصولاً إلى إيلات.
وكُلُّ ذلك يجعلُ وضْعَ الكيان الصهيوني في خطر ما لم يتم تأمينُ خطوط التجارة الصهيونية، بل ترى تل أبيب أن السيطرةَ على البحر الأحمر يعد من أهم الأهداف الاستراتيجية لها منذ تأسيسها 1948م وحتى اللحظة.
ومن أجل تأمين التجارة الصهيونية اندفعت الشركاتُ التجارية اليهودية لغزو شرق إفريقيا؛ كونها المنطقة المحتملة للتجاوُب مع العروض الإسرائيلية، فكانت أثيوبيا من أوائل الدول الأفريقية التي تقيمُ علاقاتٍ رسميةً مع الكيان الصهيوني، حتى أن القائد الإسرائيلي موشي ديان قال عقب حصول تل أبيب على امتيازات للتواجد العسكري في الجزر غرب البحر الأحمر والقريبة من باب المندب (إن أمن وسلامة أثيوبيا ضمانةٌ أكيدة لإسرائيل وتواجدها في البحر الأحمر).
وسبق أن سلّطنا الضوء في مادة سابقة على التوغل الإسرائيلي في دول شرق أفريقيا وحجم التواجُد العسكري في الجزر الإرتيرية ومخاطره.
إسرائيلُ تطالِبُ بوضع جزيرة ميون تحت الإدارة الدولية:
قبل إقدام المحتل البريطاني على الانسحاب من جنوب اليمن حاول الكيانُ الصهيوني تحريضَ بريطانيا على الإبقاء على جزيرة ميون الاستراتيجية والمطلّة على مضيق باب المندب، وذلك من خلال الدفع بلندن من أجل محاولة تدويل قضية باب المندب ومطالَبة الأمم المتحدة بوضع وصايتِها على الجزيرة وتحويلها إلى منطقة دولية.
وكان وزيرُ خارجية الكيان الصهيوني في 29 يونيو 1966م أي قبل اسْتقلَال جنوب اليمن بعام واحد فقط قد قال: إذا سقطت جزيرة بريم (ميون) في أيدي غير صديقة فقد ينجم موقفٌ خطيرٌ كما حدث في خليج العقبة وعلى نطاق أخطر، مطالباً بريطانيا بعدم الانسحاب من الجزيرة والاحتفاظ بها حتى وضعها تحت الإدارة الدولية.
وشهد العام 1969م أولَ محاولة إسرائيلية لاحتلَال الجزيرة عن طريق أثيوبيا، وهو ما تكشف عنه الوثائقُ الرسميةُ لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وما قاله رئيس وزراء دولة الجنوب وقتها الذي تحدث للجامعة العربية بالقول إن هناك تحركات ومحاولات إسرائيلية وبمساعدة أثيوبية لاحتلَال جزيرة ميون واستعمالها فيما بعدُ كورقة رابحة في أية تسوية قادمة بالشرق الأوسط.
وكانت إسرائيل وقتها قد تمكّنت بالفعل من إنشاء قاعدة عسكرية في جزر أثيوبية 1967م (قبل اسْتقلَال إرتيريا) وأبرزها في حالب وديمرا ودهلك، ورصدت بعضُ الدول العربية النشاطَ الإسرائيلي في تلك الجزر القريبة من اليمن ومن باب المندب، حيث قدرت تقارير سريّة عربية، التواجُــدَ العسكري الأجنبي بـ 900 جندي من جنسيات أميركية وبريطانية و100 خبير إسرائيلي.
كانت اليمنُ (بشطرَيها وقتها) قد عبرت عن مخاوفها من التواجُدِ العسكري المكثف لإسرائيل جنوب البحر الأحمر، مطالبةَ الجامعة العربية لحث الدول الأعضاء فيها على التحرُّك لمجابهة هذا التحرك الخطير الذي يستهدفُ الأمنَ القوميَّ العربي، إلا أن الدول العربيةَ كانت لا تزالُ تعيشُ آثارَ نكسة حزيران 1967م التي كان مِن أحد أهم أسبابها إغلاق مصر مضيق تيران في وجه السفن التجارية الإسرائيلية.
وتتحدَّثُ بعضُ المصادر التأريخية أن تحذيراتِ اليمن من النشاط العسكري الصهيوني في منطقة جنوب البحر الأحمر قد لاقت استجابةً من الدول العربية مطلعَ العام 1971م، حيث كلّفت الجامعة العربية لجنةً برئاسة سوريه للوقوف على طبيعة النشاط الإسرائيلي، غير أن اللجنةَ لم تقُم بأي شيء يُذكَرُ، وما هي إلا أشهر حتى تقدمت دولة السودان بتقاريرَ بناءً على معلوماتٍ اسْتخبَاريةٍ تؤكد ما ورد في التقارير اليمنية.
أولُ بعثة عسكرية إسرائيلية للجزر اليمنية:
وأمامَ حالة العجز والوهن العربي قرّر الكيان الصهيوني توسيعَ نشاطه العسكري في منطقة جنوب البحر الأحمر، وذلك من خلال مضاعَفة التواجد العسكري وإرسال المزيد من القِطَع الحربية إلى القواعد العسكرية الجديدة في دهلك وحالب، إضافة إلى إرسال أول بعثة عسكرية وذلك في شهر إبريل نسيان 1970م، حيث قامت البعثة بزيارة أثيوبيا ومن ثم القيام بجولة اسْتطلَاعية في المنشآتِ العسكرية الإسرائيلية في الجزر الأثيوبية (الإرتيرية) والقيام بجولات بحرية في الممرات الدولية بباب المندب وجنوب البحر الأحمر.
ولأَهميّة مواقع الجزر اليمنية في البحر الأحمر قرّرت البعثة القيام بزيارة لبعض الجزر اليمنية ومنها (زقر، جبل الطير) حيث خرجت البعثة بتوصيات أبرزها ضرورة توسيع التواجُد العسكري الإسرائيلي ليشملَ الجزرَ اليمنية التالية (الطير، كمران، حنيش الصغرى، ميون).
وتؤكد مصادرُ تأريخيةٌ أن مجموعة اسْتطلَاعية إسرائيلية مسنودة بوحدة صغيرة من الكوماندوز الإسرائيلي قد تمكنت من الوصول إلى جزيرة زُقَــر اليمنية (تبعُدُ عن الساحل 32 كيلو متراً) وتركيب أجهزة رَصْد وتنصُّت حديثة وَاستمر تواجدها في الجزيرة لأشهر بعد ذلك التأريخ، حيث لم تعلم السلطات اليمنية بذلك الاحتلَال نتيجةَ ضعف الدولة اليمنية وعدم وجود قوات بحرية يمنية ولم يتم كشف الاحتلَال الإسرائيلي لزقر إلا بعد سنوات حين تحدثت بذلك وسائل إعلام أميركية وغربية.
وأمامَ التقارير العربية والمخاوف التي أبدتها الدولُ العربيةُ من التواجد العسكري الصهيوني جنوب البحر الأحمر قام رئيسُ أركان الجيش الإسرائيلي حاييم بارليف في 6 سبتمبر أيلول من العام 1971م بزيارةٍ إلى المنشآت العسكرية الإسرائيلية في الجزر جنوب غرب البحر الأحمر.
حادثةُ كورال سي وذريعةُ العدو لاحتلَال المنطقة:
لعل فترةَ السبعينيات تعتبَرُ هي من أخطر الفترات التي مرت على اليمن خلال التأريخ الحديث، وذلك من ناحية التهديدات الأجنبية لاحتلَال أجزاء من اليمن أَوْ التواجد العسكري الأجنبي في المياه الإقليمية اليمنية وتدويل الجزر اليمنية، ورغم أن تلك الأحداث لم تجد القدرَ الكافي من التناول أَوْ على الأقل من التداول الشعبي، بما يجعلها محفوظة في الذاكرة الوطنية، إلا أن مصادر تأريخية لا تزال تشيرُ إليها ولو بأحاديث عابرة ومعلومات قد تكون مجتزئة وغير مكتملة.
فما حدث في تأريخ 11 يونيو/ حزيران 1971م يكشفُ لنا الكثيرَ من الحقائق حول الوسائل المستخدمة من قِبل العدو لتبرير عدوانه أَوْ ما يسمى خلق الذرائع والمبررات للإقدام على أية أعمال عدائية تجاه البلدان العربية، ولعل المخطط الصهيوني كان يتمثّلُ في إيجاد المبرر الواقعي لتواجده العسكري المكثف في جنوب البحر الأحمر وتوسيع هذا التواجد لاحتلَال الجزر اليمنية، بل وما هو أبعد من الجزر، ونقصد هنا الساحل الغربي القريب من باب المندب.
وهذا لن يتأتى ما لم تكن هناك ذرائعُ ومبرراتٌ مناسبة على الأقل تدفَعُ العالَمَ إلى الصمت كأقل تقدير، هذا إذا لم يتحرك لمساندة إسرائيل في أعمالها العدائية ضد اليمن تحديداً.
فحادثةُ السفينة كورال سي وهي سفينة كانت محملةً بالمشتقات النفطية وتحمل العلَم الليبري في طريقها إلى ميناء إيلات وأثناء مرورها من باب المندب تعرّضت لقذائف من الجانب اليمني، الأمر الذي أدّى إلى اشتعال النيران في أجزاء منها قبل أن تهرَعَ القواتُ الإسرائيلية المتواجدة في القواعد العسكرية بجُزُرٍ إرتيرية إلى إنقاذ السفينة.
بدا الأمر وكأنه مفتعَلٌ من قبل العدو الصهيوني، حيث جاءت الحادثة عقب تحركات لدول عربية وذلك في الجامعة العربية، جميع تلك التحركات تنطوي على تحذيرات من مخاطر التواجد العسكري الإسرائيلي في جنوب البحر الأحمر، وتحاول دفع الدول العربية إلى حماية أمنها القومي، وكذلك جاءت الحادثة بعد اتجاه الشطر الجنوبي من اليمن نحو موسكو والانضمام لمَا كان يسمى بالمعسكر الشرقي، حيث كان الكيان الصهيوني يحرصُ على أن تظلَّ اليمن بشطرَيه تحت وصاية أصدقاء إسرائيل، وهو التفسيرُ الوحيدُ لتصريحات المسؤولين الإسرائيليين قبل رحيل بريطانيا من جنوب اليمن، حيث تؤكد تلك التصريحات خطورةَ أن تصبح الجزر اليمنية تحت أيدي غير صديقة لإسرائيل، ولعل هذا أيضاً هو ما دفع الكيان الصهيوني في مارس 2015م إلى التحريض ضد اليمن وحشد تحالُف عدواني ضده كون الوضع في اليمن ما بعد سبتمبر 2014م أصبح خطراً على إسرائيل أَوْ على الأقل لم تعُد اليمن تحت الوصاية السعودية والهيمنة الاميركية.
وإذا ما عُدنا إلى حادثة كورال سي فعلى إثر الحادثة اتهمت وسائلُ إعلام غربية عناصرَ المقاومة الفلسطينية المتواجدة في اليمن باسْتهدَاف السفينة، وحاولت تحريض العالم على اليمن من خلال الحديث عن المخاطرِ التي تتهدد حركة الملاحة الدولية حتى صدرت تصريحات من دول كبرى تدينُ العملية وتلمح إلى إجراءات قد تتخذ ضد اليمن في حال الاسْتمرَار بتهديد الملاحة بل وتمنَحُ إسرائيل حق حماية سفنها، وبلغ الأمرُ بالولايات المتحدة الأميركية إلى التهديد بتحريك الأسطول السابع في المحيط الهندي إلى خليج عدن وباب المندب.
وأمامَ هذا التوتُّر الدولي جَرَّاء الحادثة كانت جمهورية اليمن الديمقراطية قد نفت ما ورد في وسائل الإعلام وفي الاتّهَامات الإسرائيلية، مشيرةً إلى أَن المعلومات لديها تؤكد أن الحادثةَ مفتعلَةٌ من قبل إسرائيل نفسها، وقالت اليمن وقتها إن الزورق الذي استهدف السفينة قد يكونُ إسرائيلياً؛ لأنه لا يحملُ أيّ علَم.
وعلاوةً على ما ذُكِـــرَ سابقاً من تأكيدات ودلائل على عدم تورُّط المقاومة الفلسطينية في اسْتهدَاف السفينة المذكورة، فالمتتبعُ لنشاط الجماعات المسلحة الفلسطينية في اليمن في فترة السبعينيات نجد أن هذه الجماعات كانت تتواجَدُ في المدن الرئيسية ولم تتواجد بكثافة إلا عقب خروج حركة فتح من لبنان مطلع الثمانينيات، أي بعد الحادثة بسنوات، حيث خصصت اليمن الشمالي معسكرات جنوب صنعاء للوحداتِ العسكرية الفلسطينية، فيما استضافت اليمنُ الجنوبي جماعاتٍ من الفلسطينيين اللاجئين والسياسيين في أحياءَ سكنيةٍ في عدن، ولم يُسجَّل أي تواجد للسلاح الفلسطيني في غير هذه الأماكن ثم من الصعوبة بمكان انتقال جماعات مسلحة تخطّط لاسْتهدَاف السفن إلى منطقة باب المندب ما لم تكن السلطاتُ تعلم بذلك؛ كون منطقة باب المندب كانت وقتَها حدوديةً بين الشطرَين وهناك تواجُدٌ عسكري رمزي في جزيرة ميون.
جواسيسُ الموساد في الساحل الغربي لليمن:
على ما يبدو أن تل أبيب ومعها واشنطن من خلال حادثة كورال سي حاولتا إيجادَ المبرِّرِ المناسب للتواجد العسكري الإسرائيلي جنوب البحر الأحمر، بل ومضاعَفة هذا التواجد والتهديد بتدويل قضية باب المندب والتلميح باحتلَال الجُزُر اليمنية التي كانت تابعةً للشطر الشمالي وقتَها، ومنها زقر وحنيش والطير، وهو ما اتضح جلياً من خلال تمكُّنِ الأجهزة الأمنية التابعة للجمهورية العربية اليمنية من القَبْضِ على جاسوس إسرائيلي 1972م يدعى (باروخ زكي مرزاحي) والذي اعترف بأنه كان مكلفاً بجَمْعِ معلوماتٍ عن باب المندب والمناطق الساحلية الغربية لليمن.
ويشيرُ النشاطُ الاسْتخبَاريُّ الإسرائيلي في اليمن من الفترة 1967م حتى عقب حرب أكتوبر 1973م إلى أَهميَّةِ اليمن ككل والمناطق الساحلية القريبة من باب المندب خُصُوصاً لدى العقلية الحاكمة للكيان الصهيوني، فاليمن تمكّنت من القبض على عدة جواسيسَ أجانبَ أغلبهم كانوا يعملون لصالح الموساد الإسرائيلي، وقد قامت السلطاتُ اليمنيةُ بتسليمهم إلى السلطات المصرية التي بدورها قامت بمقايضتهم بأسرى مصريين كانوا لدى إسرائيل.
وكان يبدَأُ نشاطُ الجواسيس من المُدُن الساحلية، ومنها الحديدة أَوْ المخاء قبل أن يحاولوا التوغُّــلَ داخلَ المجتمع اليمني تحتَ أسماءٍ مستعارة ومهن مختلفة، منهم مَن تظاهَرَ باعتناقه الإسلام، وآخرون قالوا إنهم يعملون في هوايات السياحة والتعرُّف على المدن والشعوب.
وظلت اليمنُ هَــدَفاً للكثير من الأجهزة الاسْتخبَارية الأجنبية كالمخابرات الفرنسية والأميركية وجميعها أجهزة مرتبطة بحكم وحدة المصالح والأهداف مع الأجهزة الاسْتخبَارية الإسرائيلية.
التهديدُ الصريحُ يطلقُه شيمون بيريز:
قبيلَ حرب أكتوبر تشرين 1973م كان الكيانُ الصهيوني يعيشُ مرحلةَ ما بعد الانْتصَار على العرب، حيث كان العدو وقتَها يحتلُّ شبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان والضفة الغربية وقطاع غزة، وتمكن في حرب “أكتوبر” من كسر شوكة الجيوش العربية بهزيمة ساحقة ظلت تعاني منها الدول العربية حتى يومنا هذا.
فقد انعكست الهزيمةُ العربية على وضع البحر الأحمر ككل ومضيق باب المندب خصوصاً، فقد تحول الكيان الصهيوني من مرحلة محاولة التستر وإخفاء نشاطه العسكري المتزايد في الجُزُر الإرتيرية، وما تقوم به طائراته وطواريده وقِطَعُه البحرية من عربدة في المياه الإقليمية اليمنية وخطوط الملاحة الدولية إلى مرحلة التحدّي الواضح والصريح لأيَّة محاولات أَوْ جُهُود (وأغلبها جهودٌ دبلوماسية)؛ لمجابهة هذا التواجد فكان تصريحُ وزير الخارجية الإسرائيلي وقتَها آبا ايبان الذي قال فيه إن أمنَ إسرائيل محدّدٌ ببقاء مخرجها الأمني الحر إلى البحر الأحمر وبأنها ستدافِعُ عنه بأي ثمن.
أعقبته تصريحاتٌ ناريةٌ أطلقها شيمون بيريز وكان يشغَلُ وقتَها (مارس آذار 1973م) وزيرَ المواصلات في الحكومة الإسرائيلية الذي قال: لو تعرَّضت المواصلاتُ البحرية الإسرائيلية لأي خطر فإن الردَّ سيكونُ بأقصى عنف.
تلويحٌ إسرائيلي: بابُ المندب سيقعُ تحتَ أيدينا
لعل الوقوفَ على تصريحات قادة الكيان الصهيوني، ونخُصُّ منهم القادةَ العسكريين يؤكد حقيقةَ الأطماع الصهيونية في باب المندب، فقائد سلاح البحرية الصهيونية سبق وَتحدَّثَ عن منطقة باب المندب تحديداً والبحر الأحمر عموماً بالقول: إن سيطرةَ مصر على قناة السويس لا يضعُ بين يدها سوى مفتاح واحد فقط في البحر الأحمر، أما المفتاح الثاني والأكثر أَهميّة من الناحية الاستراتيجية فمِن المحتمل أن يقعَ بين أيدينا، ويقصدُ هنا بالمفتاح الثاني والأكثر أَهميّة هو باب المندب.
ويؤكِّدُ بنيامين تسليم وهو قائدُ السلاح البحري الصهيوني في يوم السلاح البحري: إن السلاحَ البحري يقفُ على أُهبةِ الاسْتعدَاد منذُ وقت، وأنه استعدَّ لذلك عن طريق تعزيز قوته ونباء قاعدة واسعة في البحر الأحمر ويضيف بالقول: إننا اتخذنا في هذه المنطقةِ (ويقصدُ البحرَ الأحمرَ) اسْتعدَاداتٍ جيدةً، ونحن على اسْتعدَادٍ لمواجهة الاحتمالات المختلفة، ومن ضمنها إغلاق مضيق باب المندب في وجه الملاحة الإسرائيلية.
وقد جاءت تصريحاتُ قائد السلاح البحري للعدو عقب تمكُّن مصر وبالتنسيق المسبق مع اليمن (صنعاء وعدن 1973م) من إغلاق مضيق باب المندب في وجْهِ الملاحة الإسرائيلية، وذلك أثناء حرب أكتوبر الذي توحّدت فيه الكثيرُ من الدول العربية، وقدمت مساعداتٍ عسكريةً وماليةً لدول المواجهة (مصر وسوريه)، فكانت اليمن وعبر السلطات في صنعاء وكذلك السلطات في عدن قد منحت المدمّرتين المصريتين حق التواجُدِ العسكري جنوب البحر الأحمر وفي باب المندب، حيث استمر إغلاقُ المضيق لمدة 60 يوماً تكبَّد خلالها الكيانُ الصهيوني خسائرَ كبيرةً.
الخسائرُ الصهيونية جَــرَّاءَ إغلاق باب المندب:
لعلَّ الاطلاعَ على حجم ما مُني به العدوُّ الإسرائيلي في حرب أكتوبر 1973م؛ وبسبب إغلاق باب المندب يؤكّدُ حجمَ أهميّة المضيق ومنطقة جنوب البحر الأحمر بالنسبة للكيان الصهيوني.
فعقبَ قيامِ الحرْبِ تحرّكت مدّمرتان تابعتان للقوات البحرية المصرية في مهمة إغلاق باب المندب، كانت تل أبيب قد استنفرت كُلَّ قواتها للمواجَهة، حيث كان المضيقُ يُعتبَرُ أحدَ أَهمِّ شرايين الحياة بالنسبة للكيان الصهيوني؛ كونه المنفذَ الوحيدَ للسفن التجارية من وإلى ميناء إيلات، وكذلك كانت إمداداتُ النفط الإيراني (نظام الشاه) تصلُ إلى الكيان الصهيوني عن طريق باب المندب.
وَأمامَ صمود الجيوش العربية في سيناء من الجانب المصري والجولان من الجانب السوري كان الكيانُ يطلُبُ المَدَدَ والعَوْنَ ويستغيثُ بواشنطن لوقف الحرب، ناهيك عن مطالبَ أخرى تمثّلت في ضرورة فتح مضيق باب المندب، الأمرُ الذي جعَلَ المضيقَ جُزءاً لا يتجزّأُ من الحرب ضد العدو.
حيث قُدِّرَت الخسائرُ الإسرائيلية خلال ستين يوماً فقط من إغلاق المضيق بما يصلُ إلى مليار دولار وقتها، إضافةً إلى إصابةِ ميناء إيلات بالشلل التام وتسريح ما لا يقل عن 35 ألفَ عامل صهيوني كانوا يعمَلون في المصانع وفي التجارة البحرية وتوقّف صادرات الفوسفات والإسمنت إلى الدول الأفريقية وتوقفت 20% من واردات الكيان الصهيوني.
مائير وكسينجر في مهمة رَفْع الحصار:
أمامَ الخسائر الكبيرة التي تكبّدها الاقتصادُ الصهيوني تحرّكت رئيسةُ الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير مع وزير الخارجية الأميركي كيسنجر لرفعِ الحصار حتى أَن واشنطن وقتَها وتحديداً في ديسمبر 1973م هدّدت بتحريك أسطولها البحري العسكري (الأسطول السابع) لرفع الحظر والحصار على إسرائيل من باب المندب، وهو التهديدُ الأميركي الثاني خلال 3 سنوات.
وكان بابُ المندب حاضِراً في مفاوضات وقف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل، حيث اشترطت الأخيرةُ رفْعَ الحصار اليمني المصري عن باب المندب مقابِلَ رفْعِ الحصار الإسرائيلي عن الجيش المصري الثالث في سيناء، وهو ما يُعرَفُ بـ “الثغرة”، حيث وقَعَ الجيشُ المصري الثالث تحت حصار الجيش الإسرائيلي بعد توغله في صحراء سيناء
اليمنُ بعد حرب 1973م
من المؤسف القولُ إن الدولَ العربية وبعد انْتصَار حرب أكتوبر اتّجهت إلى التطبيع العلَني مع الكيان الصهيوني، فيما برزت الخلافاتُ العربية العربية من جديد لتنعكسَ سلباً على الوضع العربي برُمَّته في الوقت الذي كانت فيه مراكِزُ الأبحاث والدراسات الإسرائيلية تتجهُ إلى إعادة صياغة استراتيجيات التفوُّق والقوة وتضعُ محدداتٍ جديدةً لطبيعة الحرب الإسرائيلية ضد الدول العربية على طاولة صُنّاع القرار في تل أبيب، وكانت منطقةُ البحر الأحمر وباب المندب واليمن ضمنَ تلك الاستراتيجيات تحت مبرّر حتى لا يتكرّرَ إغلاق مضيق باب المندب مرة أخرى.
فالبحريةُ الصهيونيةُ ومن خلال تفسير تصريحات قائدها، وقد أوردناها سابقاً، تؤكد أنها وضعت خططاً عسكرية للحيلولة دون إغلاق مضيق باب المندب أَوْ للتعامُل مع أيَّة محاولات لإغلاق المضيق، وسبق أن وصفت وسائلُ إعلام إسرائيلية التواجُدَ العسكري جنوب البحر الأحمر ضمن عملياتٍ كانت تسمى بالقفزة.
وفي الوقت الذي طوّرت فيه إسرائيلُ من قُدُرات قواتها البحرية للسيطرة على البحر الأحمر، ذهبت الدولُ العربية بعيداً من خلال التركيز على قضايا الخلافات البينية وتناسي قضايا الأمن القومي العربي لتُصبِحَ اليمن وحيدةً في مواجَهة الأخطار الصهيونية، وهو ما اْتَّضَحَ جلياً من خلال قراءة الأحداث التي أعقبت حربَ أكتوبر 1973م في الوقت الذي كانت فيه اليمن ممزقةً إلى شطرَين ومتخمةً بأوجاعها الداخلية وغيرَ قادرة على تلبية أدنى متطلبات التنمية لمواطنيها، ولا تمتلكُ أيَّة قدرات بحرية ومنشغلةً بالتدخلات الخارجية أبرزُها الوصايةُ السعودية والتبعيةُ للمعسكر الشرقي، الأمرُ الذي انعكس سلباً على وضع الشطرين، حيث كان الشطر الشمالي يحاولُ لملمة جراحات حرب الستينيات، ويحاولُ بعضَ الشيء الالتفاتَ إلى ما يُعتمَلُ في البحر الأحمر من خلالِ اجتهادات بسيطة لا ترقى إلى مستوى الكارثة وحَجْم الخطر الذي يتهدّدُنا، وفي المقابل كان الشطر الجنوبي يكتفي بمذكراتٍ ورسائلَ تحذيريةٍ للجامعة العربية تعبّر عن المخاوف من التحرّكات الإسرائيلية في باب المندب ومحاولة احتلَال الجزر اليمنية.
وفي ظل تقاعُسِ الدول العربية عن تقديمِ المساعَدةِ لليمن بشطرَيه وقتها لتأكيد سِيادتِه على مياهه الإقليمية وعلى باب المندب كان وَضْعُ الجزر اليمنية تتجاذَبُه الصراعاتُ والأطماعُ، حيث كانت اليمنُ تحتاجُ إلى تأكيد سيادتها على تلك الجُزُر، من خلال وضع اليد بتواجُد حاميات عسكرية وتشغيل خدمات الملاحة الدولية كالفنارات حتى لا تتركَ فرصةً للدول الأخرى بالتدخُّل والتواجُد في تلك الجزر تحت مسمّى خدمة الملاحة الدولية، إضافة إلى التحرُّك الدبلوماسي لدى الهيئات الأممية ذات العلاقة لتأكيدِ سيادة اليمن وتبعية الجُــزُر لها، وهو ما تؤكّدُه الحقائقُ التأريخية الممتدة منذُ ما قبل الميلاد وحتى اليوم.